فى الصباح الأول تذكرتها.. كان ندى اليوم البكر هو الذى أعادها إلى الذاكرة الأولى، أو ربما لأنها هى الأولى.. مدينتى التى كانت وسكنتنى لسنين عدة وأنا أرتحل فى حقيبة سفر مليئة بالذكريات الأولى.. طفولة وبراءة وكثير من الحب.
المحرق كان اسمها، وكان ما أن تذكرها أمام أحد القادمين من مشارق العرب ومغاربهم حتى قيل لك هى مولد القومية والحركات الاحتجاجية والتظاهرات والاعتصامات ضد الاستعمار والمواقف التى سجلتها صور بالأبيض والأسود.. هى التى احتضنت عبدالناصر فى عبوره إلى إحدى قمم عدم الانحياز حيث اقتحم المرحبون به المطار المتواضع الساكن فى أحد أطرافها.. هى حيث كانت لا رائحة فى أزقتها سوى للسمك الطرى المقلى فى زيت ساخن بحرارة ودفء أهلها.. هى رقص البحر على أنغام مواويل الغوص «هيلا يا مال هيلا يا مال».. هى صيادو اللؤلؤ الراضخين تحت رحمة تاجره.. هى الرز المحلى بدبس التمر الشهى.. هى الزحف عبر جسرها، الوحيد حينها، ليحتضن المحرقى المتظاهر ضد القمع والذل اخيه الزاحف من الضفة الأخرى للجسر.. من المنامة.. هى الصرخة التى إذا زلزلت الكون من أية جهة فى البحرين أو أى بلد عربى قام المحرقيون استجابة لها.. هى مدينة بمدن كثيرة عراد والدير والحد وقلالى والسماهيج وفريق البنعلى وبراحة بن غتم، وهى كلها وطن اختزلته مدينة.
كانت تلك مدينتى يوما.. أما الآن فهى أرض لا أعرفها.. وكأنى لم أعش بها أحلى اللحظات.. لم ألاعب موج بحرها بآخر شارعنا.. لم أصافح نسمتها الصباحية المرطبة بمائة.. لم أستمع لأول أغنية لأم كلثوم من ذلك المذياع القديم ولا لخطاب ذاك القائد الذى يخلق صمتا إلا من صوته الجهورى.. هى التى كنت أقف على أرصفتها أراقب القادمين من بعيد.. هى النشوة والنخوة والوطن.
●●●
كم تغيرت هى كما هو حال الكثير من الوطن.. منذ أيام جاءت الاخبار متلاحقة لم تستكن وسيلة تواصل من نشر الألم القادم منها.. كم تمزقت إلى شرائح واطياف وطوائف.. هى التى كانت لا لهجة تفرقها ولا حى ولا زقاق، لا تقسيمات للجغرافيا ولا مساحات للاختلاف الا بهدوء وطيبة اهلها.. هى حديقة بزهور متنوعة.. هى اليوم مدينة الرافض للآخر، واللون الواحد والعداء والعودة للجاهلية الاولى.. ماذا فعلوا بك منذ ذاك اليوم الذى قلت فيه لا واكثرتيها حتى تربصوا لك ليجعلوك مدينة منزوعة الا من الحقد والطائفية البغيضة.. بعيدة عن امتداداتك إلى هناك إلى اوسع من حدود رسمتها بضعة جسور منمقة اطلقوا عليها تسميات هى الأبعد عنها.. سنوات من العمل الدءوب لخلق بشر آخرين هنا.. اناس لا اعرفهم هم ليسوا رجالات تلك الاحياء المتواضعة الجالسين باسترخاء على مساحة من المقاهى الشعبية يحتسون الشاى ويتداولون حديث الانفتاح على الكون دون تكفير أو ترهيب أو رفض للاخر.. هم ليسوا تلك النسوة اللاتى شاركن فى كل الحركات الاحتجاجية وغيرهن من اللاتى خرجنا فى تظاهرات مطالبات بحريتهن ومساواتهن فيما انتفضت نساء العالم فى ستينيات القرن الماضى.. هى ليست الأبواب المفتوحة على بيوت بل هى قلوب مفتوحة للجميع، حيث تفترش النسوة الاحواش الداخلية ويمضين فى استرخاء بحضن لحظات الزمن الذى كان.. هن نفس النسوة اللاتى التحفن اليوم السواد وتغمسن به!!! يصرخن بحناجر منادية بعكس ما كانت ربما هو الخوف الذى انغرس بنفوسهن ونفوسهم من ذاك الاخر ربما؟؟؟ ام هى التهم الإعلامية التى لم تكف عن نشر الكراهية والحقد والتقسيم المنظم والممنهج فى شكل برنامج حوارى!!! أو هو المخطط الاكبر الذى راح يتحدث عن هلاك هنا وأسلحة نووية هناك؟؟ ربما هو كل ذلك أو اكثر ولكن ما يهم انهم حولوا كل وسائل الحداثة إلى تعبير عن الجهل والتخلف والعودة إلى قرون مضت.. ليتهم يقفون لحظة يسمعون صوت جدران مدينتهم وذكريات كانت.. ليتهم يسمعون همس الازقة الحائرة من هول هذا التحول أو ربما فقط ان يعودوا لصوت العقل الذى كانوا، فى زمن استكان العقل فى سباته بعد ان انتزعوه منهم وأودعوه دوائر الخوف القاتمة السواد.