نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتب مهند الحاج على يتحدث فيه عن محاولات تركيا التدخل فى لبنان والسيطرة على الطائفة السنية فيها... نعرض منه ما يلى:
فى 4 يوليو، أعلن وزير الداخلية اللبنانى محمد فهمى اعتقال أربعة أشخاص، سوريين وتركيين، فيما كانوا يحاولون تهريب 4 ملايين دولار إلى لبنان على متن رحلة جوية آتية من تركيا. وادعى فهمى أن هدف هذه المبالغ كان «تغذية تمويل تحركات عنيفة فى الشارع»، وبأن «تعليمات» ما أُرسلت من تركيا عبر تطبيق «واتساب» إلى عناصر فى حركة الاحتجاج المناوئة للحكومة فى البلاد.
لم يكن فهمى السياسى الوحيد الذى تحدث عن تنامى الدور التركى فى لبنان. فقد نشر موقع إلكترونى مرتبط بوزير الداخلية السابق نهاد المشنوق لائحة كاملة بما زُعم أنه منظمات غير حكومية ومساجد موالية لتركيا. كما ادعى الموقع أن أنقرة تُخطط لاحتلال طرابلس، ثانى أكبر مدن لبنان ومعقل المسلمين السنة فى البلاد.
***
بالطبع، من الصعب إثبات المزاعم حول الدور التركى ومؤامراته فى لبنان، لأن أنقرة لم تكن تنتهج أجندة سياسية نشطة فى البلاد، وليس لديها حلفاء سياسيين فى مجلس النواب أو الحكومة.
بيد أن الأتراك بدأوا ببطء، ولكن بدأب، ببناء الشبكات ونسج العلاقات مع المجتمعات المحلية السنية فى طول لبنان وعرضه، وعلى مستويات مختلفة. وجاء الإعلان الأسبوع الماضى عن أن تركيا اكتشفت حقل غاز جديدا فى البحر الأسود، ليطرح إمكانية توافر المزيد من الموارد لتمويل مثل هذه النشاطات التى تتمثل فى الآتى: أولا، تُواصل تركيا العمل على تعزيز الروابط الثقافية والإثنية مع لبنان، من خلال تقديم المنح الدراسية، والانخراط فى النشاطات الثقافية، ومنح الجنسية التركية لآلاف اللبنانيين. ومنذ زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى بيروت فى نوفمبر 2010، استثمرت أنقرة فى إعادة تأهيل رموز الحقبة العثمانية، بينها محطة قطار طرابلس فى خط سكك الحجاز التاريخى. كما افتتحت مراكز ثقافية يتعلم فيها الآلاف اللغة التركية.
تكمن أولوية تركيا أيضا فى إحياء الهوية التركمانية. فقبل أن تُبدى أنقرة اهتماما بالمجتمع المحلى التركمانى منذ أكثر من عقد، كان التركمان مجرد أقلية متناثرة بين شمال لبنان وشرقه وفقدوا الكثير من روابطهم مع تركيا. لكن سكان البلدات التركمانية المهمشة يقولون الآن إنهم يشعرون بوجود الدولة التركية أكثر من الدولة اللبنانية. فتركيا تنظم زيارات دبلوماسية دورية، وتُمول مشاريع من خلال الوكالة التركية للتعاون والتنسيق. هذا فى حين يقطن العديد من التركمان السوريين لبنان أيضا.
إضافة إلى مشاريع التنمية، أصبح منح الجنسية مُهمة تركية كبرى. فقد حصل آلاف اللبنانيين من التركمان أو الذين يدعون التحدر من أصول تركية، على الجنسية التركية. وأعلن أخيرا وزير الخارجية التركى مولود جاويش أوغلو، خلال زيارة لبيروت غداة الانفجار الكارثى فى مرفأ بيروت، أن أردوغان أعطاه تعليمات بمنح الجنسية إلى أى تركمانى لبنانى أو من له أصول تركية.
تشير أرقام غير رسمية إلى أن 18 ألف لبنانى قدموا، حتى العام 2019، طلبات للحصول على الجنسية التركية، وأن أكثر من 9600 من هؤلاء حصلوا عليها. ليس كل الذين تقدموا بطلبات هم من الإثنية التركية أو التركمان، فالعديد من اللبنانيين ينجذبون إلى تركيا بسبب استقرارها، ونمط الحياة فيها، وبرنامج إلغاء تأشيرة الدخول مع لبنان. وقد تركت القوة الناعمة التركية، التى كانت فى معظمها حصيلة المسلسلات التلفزيونية التركية الشعبية وسياسات أردوغان الشعبوية، بصماتها بقوة على العديد من اللبنانيين، من بينهم السنة الذين يتوقون إلى مصدر جديد للفخر، فى ضوء نفوذ إيران فى بلاد المشرق خاصة فى أوساط المجتمعات المحلية الشيعية.
***
مع ذلك، كان لتنامى النفوذ التركى فى أوساط الطائفة السنية مضاعفات سلبية على العلاقات بين الطوائف فى لبنان. فأنقرة سعت إلى تبييض صفحة التاريخ العثمانى وتمجيده، من خلال المحاضرات الممولة، على الرغم من أن ذلك مثار نزاع فى لبنان. فعلى سبيل المثال، سعت شبكة داعمى تركيا إلى تخويف الأرمن الساعين إلى إحياء الذكرى السنوية للإبادة الجماعية فى العام 1915. ومنذ زيارة أردوغان إلى بيروت، كان الأرمن يتعرضون إلى ضغوط على نحو متزايد، فيما كان آلاف المُحتجين الموالين لتركيا يظهرون فى حشود ويلوحون بالأعلام التركية ويطلقون الشعارات التهديدية التى غالبا ما تتضمن الدعوة إلى إبادة جماعية أخرى.
لا تقتصر مثل هذه الأعمال على التجمعات، إذ أرهب أنصار تركيا إعلاميا تلفزيونيا أرمنيا انتقد أردوغان خلال بثٍ مباشر. كما كانت الحملات التى تلت ذلك ملحوظة، من الفيديوهات والتهديدات إلى الشتائم الموجهة إلى المجتمع المحلى الأرمنى، هذا فيما تتقلص أعداد الأرمن فى لبنان لأن العديد منهم اختاروا مغادرة البلاد بسبب تغير المناخات فى بلاد كانت تتعاطف عادة مع قضيتهم. هذا المثال الأرمنى يسلط الضوء على مجال مثير للقلق فى مسألة تنامى النفوذ التركى، وهو أن العديد من الأقليات اللبنانية تتشاطر رؤية مؤلمة وسلبية حيال الحقبة العثمانية.
***
يتبدى جانب آخر من النفوذ التركى فى لبنان فى الكيفية التى عمدت بموجبها تركيا إلى إدخال قضاياها المحلية فى صُلب أنشطتها فى البلاد. فقد أورد مسئولون أتراك أخيرا اسم إيرين بلبل، وهو فتى يبلغ الخامسة عشرة من العمر قُتل على يد حزب العمال الكردستانى فى العام 2017، بوصفه مصدر إلهام فى جهود الإغاثة غداة انفجار مرفأ بيروت فى 4 أغسطس. مثل هذه الإشارات تستهدف بشكل أساسى الجمهور التركى لا اللبنانى.
كانت الأولويات الداخلية أيضا وراء ملاحقة تركيا لمناصرى فتح الله غولن فى لبنان، على الرغم من حضورهم الضعيف فى البلاد. وبعد الانقلاب الفاشل فى 15 يوليو 2016 والحملة الشرسة التى شُنت على شبكات غولن فى تركيا وخارجها، حشدت أنقرة مناصريها فى لبنان، وأرغمت شيخا لبنانيا يُقال إنه على ارتباط بغولن على الاستقالة من منصبه كمدير لمدرسة قرآنية مرتبطة بالإخوان المسلمين فى بيروت الغربية. ووفق ثلاثة أشخاص مطلعين على هذه المسألة، كانت المدرسة قد أبرمت شراكة مع شبكة غولن، لكنها لم تكن تابعة لها. ومع أن هذا التدخل أظهر نفوذ أنقرة وقدرتها، إلا أنه أماط اللثام فى الوقت نفسه عن مقاربتها المحدودة التى لم تأخذ فى الاعتبار المصالح التركية الأوسع.
لاتزال استثمارات تركيا فى لبنان تتواصل على قدم وساق وتتمدد فى أوساط الطائفة السنية. إذ سيتم افتتاح مستشفى تركى فى مدينة صيدا، ناهيك عن زيادة المنح الجامعية للطلاب اللبنانيين، ما يجعل تركيا من الدول الأساسية التى تمنح مساعدات فى مجال التعليم العالى للبنانيين.
***
حتى الآن، امتنعت تركيا عن دعم حزب سياسى بعينه، مثل الجماعة الإسلامية التى تُعتبر النسخة اللبنانية من الإخوان المسلمين. ويُعزى ذلك إلى أنها تهدف ربما إلى الابتعاد عن السياسات الحزبية والاحتفاظ بالدعم الشعبى الذى تحظى به فى أوساط شريحة واسعة من المجتمع السنى. فى الواقع، يمتد نفوذ تركيا وقاعدة دعم أردوغان ليطال الأكراد والعرب الذين هاجروا من تركيا وحصلوا على الجنسية اللبنانية فى تسعينيات القرن الماضى، علما بأن بعضا من هذه المجموعات احتفظ بصلة قوية بتركيا.
كما أقام بعض السياسيين اللبنانيين علاقات مع تركيا، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق سعد الحريرى، الذى حضر حفل زواج ابنة أردوغان. مع ذلك، سيؤدى العداء المتزايد بين تركيا وبين دول عربية، كالسعودية والإمارات ومصر، إلى جعل حفاظ بعض السياسيين، من بينهم الحريرى، على مثل هذه العلاقات أمرا صعبا. كذلك عمد رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان، الذى يُعتبر مقربا من أردوغان ويتولى إدارة أمنه، إلى بناء علاقة متينة مع المدير العام للأمن العام اللبنانى اللواء عباس إبراهيم، وهو شخصية مؤثرة على نحو متزايد فى البلاد.
مع ذلك، لم تتدخل تركيا بشكل مباشر فى السياسة اللبنانية. بيد أن ذلك قد يتغير بعد انفجار مرفأ بيروت. فقد اعتُبرت زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى لبنان عقب الانفجار ومبادرته لإنهاء المأزق السياسى الذى تتخبط به البلاد جزئيا على أنها محاولة لمنع تركيا من إقامة موطئ قدم آخر لها على سواحل البحر المتوسط. وقد ربط ماكرون لبنان وليبيا فى تغريدة على تويتر تحدث فيها عن مكالمة هاتفية أجراها مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وأشار بشكل مباشر إلى الإجراءات التركية فى كلا البلدين.
وفيما يمثل انخراط تركيا فى ليبيا وسورية التزامات كبرى، يبدو أيضا أن ثمة اهتماما تركيا متزايدا بالتركيز على لبنان. وفى حال استمر الوضع على هذا المنوال، واتخذت أنقرة قرارا بلعب دور فاعل، لن تبدأ من الصفر، بل ستحظى بدعم محلى يمكن البناء عليه فى أوساط السنة الباحثين عن راعٍ لهم.
النص الأصلى