كانت الغرفة مثقلة بوجعهن، تعابير الوجوه المتعبة وعيون تعتَّق فيها الحزن حتى بدت وكأنها دون تعابير، لا تنطق إلا لتفضح القلوب الموصدة تلك التى قامت كل منهن بإغلاقها بمفاتيح وأقفال صدئة من كثرة دموعهن.. هواء الغرفة مثقل بمعاناتهن ربما أو لأن الحيطان والجدران تحس أحيانا أكثر من البشر حتى أقرب المقربين.. هن نساء ضحايا لكثير مما يحدث فى هذه الأوطان ضد المرأة من نظرة دونية تحولها إلى «آلة» للتفريخ أو «خادمة» لكل أفراد الأسرة لا هم لها سوى أن تقف على احتياجاتهم من أكل وملبس ونظافة وتدريس، أو وهو الأسوأ وسيلة لإشباع رغبات كثير من المرضى.
***
كل لها قصتها التى بالإمكان أن تتحول إلى رواية تنافس كل ما يكتبه البعض من الأدباء الجدد حول واقع لا يلامس هذا الذى عرفنه.. كلهن يتشاركن فى أمر واحد أنهن ضحايا لظروف اقتصادية أو كن فى واحدة من بلادنا التى مزقتها الحروب، ثم لا ترحمهن العادات والتقاليد التى رسمت لهن أدوارا على مر السنين أصبح من الصعب تغييرها إلا بكثير من العمل والجهد ورفض هذا الواقع البائس.
***
مثلهن كثيرات توزعن على خرائط هذه الأوطان، ليسوا منحصرات فى قرية أو مدينة ولا فى ديانة أو عرق.. ساوى بينهن الوجع من ذاك الذى جعلهن أدوات للحروب فاغتصبن وقُدمن لأكثر من رجل من المقاتلين باسم الدين والدولة الإسلامية.. إحداهن تعاقب عليها رجال بوجوه ولغات وأسماء مختلفة وأيضا من بلاد متعددة.. حتى لم تعد تعرف أى منهم هو أب أطفالها!!! هرب كل هؤلاء الرجال «المجاهدين» وتركوا سباياهم وأطفال الجهاد الأكبر خلفهم.. عادت النساء إلى عائلاتهن ينتظرن بحرقة حضنا دافئا افتقدنه، ولدهشتهن أوصدت الأبواب وطويت سجاجيد الفرح.. قيل لهن إنكن تأتين بالعار على العائلة والقبيلة فيما عاد الرجال محمولين على الأكتاف!!!
***
ليسوا جميعا ضحايا تلك الجماعات المتخلفة بل كثيرات منهن فقدن آباءهن أو أزواجهن وأصبحن معيلات لأسرهن؛ حيث تقبل أن تعمل الواحدة منهن فى أى وظيفة وبأى مرتب وتحت أى ظرف مجحفة لتطعم أطفالها وتردد «غدا سيكبرون ويعيدون لى تلك الابتسامة التى شحت حتى تصورت أنها موجودة فقط فى الأفلام والروايات العاطفية».
***
تبدأ نهارها بنظرات صاحب العمل الذى يمر بعينيه على كل جسدها يقف عند كل تفصيلة، تحس هى أنه يُعريها من ملابسها رغم أنها لا تلبس إلا الملابس المعروفة لدى هذه المجتمعات بأنها «حشمة». ولا يتورع عن مد يده محاولة لملامسة جزء من جسدها.. تخرج فى آخر يوم عمل طويل ومجهد ليلاقيها صاحب الميكروباص يطلب منها الصعود ليوصلها وإن رفضت أخرج ورقة نقدية يعرضها عليها.
***
تقول لميس أنا لست امرأة غير شريفة ولكن «ما هو الشرف فى نظرهم» يتفقن جميعا على أن الزمن لم يكن هو الوحيد الذى أسقط بثقله وظلمه عليهن بل أسرهن.. أمهات وآباء طردوهن من عباءة العائلة وجعل الواحدة منهن تعمل ليلا نهارا لتوفر بعض الخبز والزعتر وبعض التعليم.. حتى المدارس أوصدت فى وجوه صغارهن.. فالعار الذى يصيب الأم والأخت والزوجة لا يلبث وأن يصبح وصمة على جبين كل أطفالها.
***
«مجتمع ظالم» رددت فاطمة ولم تستطع أن تحبس دموعها التى تدفقت كالنهر، تحولت كل أحلامها إلى أحد يحس بوجعها وقد يوفر ذاك الحضن الذى لا تزال تتمناه لها ولأطفالها.
***
كثيرات هن الذين يشبهن هذه النسوة فى تلك الغرفة التى لا يزين جدرانها إلا تضاريس المياه التى تسربت لها على مر السنين ونخرت الرطوبة الحجر والبشر وكأنه لم تتبق سوى الطبيعة والحيطان لتضيف لقسوة الزمن قسوة.
***
كلما روت إحداهن قصتها امتلأت العيون المتحجرة بدمع يتحول إلى شلال.. إحداهن فقط قالت إن تجربتها القاسية علمتها أن تكون قوية وأن تحارب كل تلك التقاليد البالية، تتدارك لتقول «ليست كل التقاليد والعادات سيئة» ولكن تلك التى تعرضن لها.. حتما لا يمكن أن يتخيل أحدنا أن الأعداء فى المعارك والحروب هم حلفاء ضد النساء، متفقين على الاستمرار فى تكريس ظلم انغرس فى ذاكرتهن وسيبقى مع أطفالهن يحملنه معهم أينما رحلوا.. يالا ظلمكم، يالا ظلمنا.