تزداد حدة التناقضات فى المدينة وتتنوع لتصبح شكلا من السريالية، خاصة وأن المسافة الجغرافية متقاربة جدا ولكن بين هذا وذاك سنوات من الفرقة رغم القرب المتلاصق. كلما ازدادت زحمة المواصلات قيل هذا زحف الريف، وكلما اشتدت حدة التدين فى «أقله» المظهرى قيل هذه نساء الريف الزاحفات إلى المدن. وكلما انتشرت العشوائيات فى كل شىء وليس البناء فقط قيل هذا الريف «المتخلف» يأتى بفوضاه الخاصة إلى المدينة!
عندما يضيق العيش وتندر الوظيفة اللائقه ويصبح الفقر كالطاعون انتشارا، يردد البعض هذا الريف الذى أفقرنا وقلل من فرص العمل لأبناء المدينة المتمدنين الحداثيين والمدنيين جدا! وكلما ازدادت نسبة القذارة قيل نقل الريفيون وساختهم معهم فهم لا يعرفون الا العيش مع «البهائم»! وعندما تكتظ وسائل المواصلات العامة وتلفظ الحافلات ركابها وتميل من كثرة الازدحام بها حيث الأعداد تفوق عدد الكراسى والقدرة الاحتمالية للمركبة، حينها يقال هذه تصرفات أهل الريف. وحتى حين ارتفعت حالات التحرش بالنساء فى الأماكن العامة كاد الاستسهال الممل يصل إلى حد اتهام أى قادم من الريف بالتحرش!
***
شىء ما يبعد عن المنطق عند رمى كل «موبقات» المدن الحديثة بزحف الريف والريفيين. شىء ما يستسهله هذا الخطاب أو التحليل فى شجب المدن المتحولة بسبب الريف الزاحف عليها من كل مكان، فيما كانت أخلاق الريف سابقا تذكر كمثال على أنها تشمل كل الصفات الحسنة من شهامة وعزة نفس وكرامة واعتداد واحترام للآخر، أصبحت الآن هى الفوضى وقلة الاحترام وقلة الأدب أيضا وسوء المعاملة.
لم يأتِ زحف الريف مفاجئا بل ربما من تفاجأ به هو المسئول عن ما حدث للريف من تجريف نتيجة الإهمال والتهميش وعدم الاهتمام وسياسات التركيز على المدن وخاصة الكبيرة منها أو العواصم. كان الريف مهما ونقيا عندما كنا أوطانا زراعية وكنا نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، ولكن بعدما تحولنا كلنا إلى العقار كمصدر والسياحة كوسيلة للتعايش حتى ولو كانت السياحة الرخيصة! هنا أهملت الزراعة ربما عن عمد؛ كسياسة ممنهجة لتحويل كل هذه الأوطان إلى الاعتماد على الخارج بحيث يُستطاع تجويعها فى حالة عصيانها، أو عن غير عمد؛ بالانبهار بنماذج تنموية ــ هى حقيقة ــ بعيدة جدا عن التنمية ومتلاصقة مع النمو فقط دون أى استدامة أو قدرة على البقاء فى حال اختل الميزان بعض الشىء أو وقفت الأرض عن ضخ النفط أو الغاز أو ما شابه.
***
كانت أحزمة البؤس هى أول الزحف الريفى ولم يكترث لها أحد، فراح الجميع للتركيز على عمق أو قلب المدينة الذى هو حكر للأثرياء والمرفهين وبعض آخر من ما تبقى من الطبقات الوسطى التى يراد لها أيضا أن تسقط فى مهب سياسة التجويع، والطبقتان لا ثالت لهما إما الثراء الفاحش أو الفقر المدقع! هكذا خير الكثيرون ممن كانوا من سكان قلب المدينة أيضا وأجبروا على الزحف للأطراف الفقيرة أو الأحياء المهملة بحثا عن مسكن لم تطله سياسات الانفتاح أو بعض من سياسات تلك المؤسسات الكبرى التى ما إن تدخل إلى بلد حتى تتسع ديونه الخارجية ويفقر شعبه فيما تزداد شريحة بسيطة من السكان ثراء فثراء فثراء.
هذه المدن التى تحولت كما يعتقد البعض إلى شىء من المسخ عما كانت عليه حيث الشوارع النظيفة التى تغسل مع إشراقة كل شمس بالماء والصابون، والحدائق العامة بهوائها النقى بعيدا عن عوادم السيارات والمبانى النظيفة والأرصفة الصالحة للمشى لا لركن العربات والنظافة التى تعم المكان. كل هذا قد تحول ليس بفعل أمر واحد بل بإرادة حكومات ومسئولين فضلوا إغماض أعينهم عن الحقائق وركزوا على اللحظة دون التخطيط للمستقبل ونشروا الفساد حتى أصبح هو جزءا من الشطارة ومن لا يمارسه فهو الغبى، وتغاضوا عن زحف طبقات بكاملها إلى أطراف المدن لأن أوساطها أصبحت حكرا لفئة صغيرة جدا تملك الأرض وما عليها وتتقاسم حتى رغيف الخبز مع الفقير، حتى انخلقت طبقة لا تعرف من هم أولئك الساكنون فى مدن الفقر التى فى الكثير من الأحيان لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن منازلها الفاخرة ومطاعمها المكدسة بما لذ وطاب من أندر المأكولات. ومتاجرها التى تحمل كما باريس أول ملابس الموسم وكل موسم؛ حيث حقيبة اليد تعادل مرتب العامل البسيط لسنة كاملة.
***
هذه مدنكم أنتم خلقتموها وأنتم من سيدفع الثمن ولكننا كلنا أيضا سندفع ثمنا باهظا لتهميش فئات واسعة ودفع الكثيرين للفقر.. فمن يزرع الريح يجنى العاصفة دوما.. فلا ترموا كل هذا على الريف القادم من بطن الأرض.. ذاك الذى أطعمكم لعقود طويلة عندما كان للإنسان بعض كرامة قبل أن نصبح أكبر منطقة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما تنتجه مدن العصر.. وتصنع كل احتياجاتها بالصين، فيما قالوا لنا سابقا: اطلبوا العلم ولو فى الصين، ولم يُقل: اصنعوا عقالكم بالصين وفانوسكم هناك أيضا!