التغير المفاجئ الذى يحدث دون مقدمات هو أكثر الأشياء التى تربك الحسابات السياسية. وإليك أقرب مثال، فى وسط حرب روسيا وأوكرانيا تفاجأ العالم، فى نهاية شهر يونيو الماضى، بانقلاب قوات فاجنر، وتهديدها العاصمة موسكو. وحبس العالم أنفاسه أثناء متابعة هذه الدراما. ثم فجأة توقف الانقلاب قبل أن يصل إلى موسكو. وكما كانت البداية غير مفهومة، جاءت النهاية أشد غرابة، فلم نفهم على ماذا انتهت أو كيف توقفت؟. أما المفاجأة التالية، هى انتظار الجميع انتقام الرئيس بوتين، إذ توقع غالبية المحللين تصفية رئيس فاجنر. ولكن لم يحدث أى شىء من هذا القبيل، إذ حضر رئيس فاجنر قمة روسياــأفريقيا التى اختتمت أعمالها يوم 29 يوليو الماضى، وكشفت محطة السى إن إن الأمريكية عن صور التقطت له مع رئيس أفريقيا الوسطى داخل أروقة المؤتمر. واستكمالا للمفاجآت، فإن لحظة انقلاب قوات فاجنر مرت من أمام أعين القوات الأوكرانية، والناتو، وأجهزة الاستخبارات الغربية، وعلى رأسها المخابرات الأمريكية والبريطانية، دون أن تستطيع أى جهة استغلالها أو البناء عليها. والآن، انتقلت قوات فاجنر إلى بيلاروسيا، مما يمثل تهديدا لبولندا، قد يستوجب ردا من الناتو.
مفاجأة أخرى من العيار الثقيل، وهى الخبر الذى نقلته جريدة الشروق يوم 17 يوليو تحت عنوان «خطأ إملائى كارثى يؤدى لتسريب الملايين من رسائل البريد الإلكترونى للجيش الأمريكى». وكشف الخبر عن وصول هذه الرسائل إلى دولة مالى التى يعتبرها الغرب حليفا لروسيا. وتحمل الرسائل التى كان آخرها منذ أيام قليلة، معلومات حساسة للغاية، مثل تحركات القادة العسكريين الأمريكيين وخطط سفرهم، وكلمات السر الخاصة بالبريد الإلكترونى، وسجلات طبية لأفراد الجيش.. إلخ من هذه النوعية. لكن الأخطر هو التفاصيل الخاصة ببعض الأسلحة وبرامج تطويرها، مثل صاروخ ستورم شادو البريطانى طويل المدى. وهذه هى المفاجأة الثانية هذا العام بعد أشهر قليلة من انكشاف أمر الجندى الأمريكى جاك تيكسيرا الذى كان ينشر وثائق سرية فى مجموعات دردشة عبر منصات الألعاب، والتى نقلت معلومات حساسة للجانب الروسى. وبالرغم أن هذه المفاجآت لم يكشف عنها الجانب الروسى، وإنما الجانب الأمريكى الذى وقعت فى مجاله الاختراقات، فإن الجانب الروسى لم يفصح عن اختراقات مماثلة. وقد يكون ذلك «لشطارة الروس» فى الأمن السيبرانى، أو «شطارة الرقيب الروسى» فى معالجة الأخبار من هذا النوع ولو إلى حين.
• • •
كان اندلاع الحرب الأهلية فى السودان منتصف أبريل الماضى مفاجأة من العيار المقلق، لما تحمله من تداعيات على أمن مصر القومى. وسرعان ما انتبه الناس فى مصر للفيديوهات التى انتشرت عن اقتحام مطار مروى. وبمجرد انتهاء تلك الأحداث تراجعت المتابعة للأحداث المتلاحقة فى السودان على الرغم من أهميتها وتأثيرها المزمن. يكفى أن الآلاف يتدفقون يوميا على الحدود المصرية فى ظل الضغوط الاقتصادية التى يمر بها الاقتصاد المصرى. ولم تكن المفاجأة استمرار هذه الحرب، ناهيك عن دور شركة فاجنر فى إحداثها، وإنما المفاجأة فى ما قام به رئيس الوزراء الأثيوبى آبى أحمد أثناء حضوره قمة «دول جوار السودان» التى نظمت فى القاهرة واختتمت أعمالها يوم 13 يوليو. فقد كان الأمر المتوقع أن يغادر آبى أحمد عائدا إلى بلاده بمجرد انتهاء القمة، ولكنه مد زيارته، وقام بعمل جولة فى العاصمة الإدارية الجديدة، فى نفس وقت الملء الرابع لسد النهضة. وهو أمر محير، فمن ناحية عملية ملء السد تأخذ وقتا أطول مما طالبت به مصر، ومن ثم لا تأثير علينا. ومن ناحية أخرى، تمثل عملية الملء دون اتفاق نوعا من فرض الإرادة الأثيوبية على دولتى المصب. وهو الأمر الذى يرفضه الشعب المصرى. ولكن زيارة العاصمة الإدارية تتنافى مع كل ما سبق، ولذلك لا ندرى ماذا نتوقع منها، وسيكون من الغريب تباين المواقف بعدها. فهل نرى مفاجأة فى ملف سد النهضة؟ ولكن ماذا عن السودان؟
• • •
مفاجأة أخرى من كواليس الخليج هذه المرة أو بالأحرى مفاجآت. حيث تعودنا على توقع الصدمات التى تغير الواقع فى الخليج كل حين، ولذلك لا تأخذ المفاجآت وقتا طويلا قبل أن تمر وكأنها لم تحدث. ولما حدثت المصالحة الإيرانية السعودية برعاية صينية فى مارس الماضى، توقف الجميع بانبهار أمام الحدث، ثم تراجعت أهميته بعد تباين سياسات إيران من جانب والسعودية والكويت من جانب آخر حول ملكية حقول الغاز فى الخليج، إضافة إلى التوتر الكامن فى ملف اليمن الذى يوشك أن يعيد الحرب مجددا. ولما حدثت تباينات بين الإمارات والسعودية حول حصص إنتاج البترول، والموقف من اليمن، والموقف من الاتفاق الإبراهيمى، لم تأخذ هذه التباينات مساحة واسعة من الاهتمام، ولا حتى الإصرار السعودى على تنفيذ «برنامج المقار الإقليمية» الذى أعلنت عنه عام 2021، والذى دخل حيز التنفيذ والذى يهدد الشركات دولية النشاط بتراجع أعمالها فى السعودية إذا لم تنقل مقرها الإقليمى إلى داخل المملكة. وإنما المفاجأة هذه المرة فى إلحاح الإدارة الأمريكية على ولى العهد السعودى للتطبيع مع إسرائيل، ولا يكاد يمر شهر وأحيانا بضعة أسابيع إلا ويتناوب كل من وزير الخارجية الأمريكى ومستشار الأمن القومى الأمريكى زيارة المملكة للدفع بملف التطبيع مع إسرائيل. فهل تفعلها المملكة ويتغير الشرق الأوسط الذى نعرفه؟
• • •
أما المفاجأة التى لم تكن على البال ولا الخاطر، فهى حالة الانقسام غير المسبوقة داخل إسرائيل والتى شبهتها صحافتهم بيوم 6 أكتوبر، ولكن هذه المرة الفاعل من داخلهم. وتصاعدت الأزمة الدستورية فى ظل إصرار حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، على الحد من سلطة المحكمة العليا. فى حين تعتبر المعارضة أن هذا الأمر يضرب الديمقراطية فى مقتل، ويؤكد على ذلك تحذيرات أغلب قادة المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، إضافة إلى قادة جيش الاحتلال الإسرائيلى، وأيضا إعلان الآلاف من قوات الاحتياط العصيان حال استدعائهم للخدمة. وحذر مسئولون رفيعو المستوى بأن أعداء إسرائيل قد يستغلون حالة العصيان ويباغتون الدولة بهجوم مفاجئ. وبالرغم من كل ذلك، إضافة إلى تدخل الرئيس الأمريكى فى الأزمة بطلب من الرئيس الإسرائيلى، إلا أن الكنيست أقر يوم 24 يوليو التعديلات وأصبحت أمرا واقعا بالرغم من انسحاب المعارضة من جلسة التصويت. والشىء المنتظر الآن هو تداعيات ما حدث. وأغلب الظن أن هذه الأزمة الداخلية فى إسرائيل قد تصل لسحب الثقة من حكومة نتنياهو، لكنها لن تستطيع إصلاح ما أفسدته هذه الحكومة. والمفارقة فى هذا الصدد أن الأمر الوحيد الذى يمكن أن يوحد إسرائيل الآن هو الخطر الخارجى المتمثل فى حزب الله، أو الداخلى المتمثل فى الفصائل الفلسطينية. فهل تفاجئنا هذه الجهات وتقدم خدمة لحكومة نتنياهو؟