بعد مُقدِّمة طويلة عامِرة بأساليب التشويق، راحت الصديقةُ تلقى بأسئلة واستفسارات على الشَّخص الذى هاتفها، عارضًا عليها وِحدة فى أحد المُنتجعات ذات الشُّهرة والصَّيت. لم يكُن الحوار من طَرفِها جادًا بأى حال؛ فالعرض بدا خياليًا، يستجلبُ القهقاتِ لا التفكير؛ لكنها واستكمالًا للمَشهد قالت فى جدِّية: شوقتنى لزيارة المكان وبعدها أتخذ القرار.
• • •
المُشتاقُ فى مَعاجم اللغة العربية هو الذى تنزع نفسُه إلى أمر من الأمور وتميل أو تتطلع إليه. الفعلُ اشتاق والمفعول به مُشتاقٌ إليه والمَصدَر اشتياق، والشائق هو كل مُمتِع الجذَّاب، وأشهر الأسماءِ التى تدور فى فلكِه شوقٌ وشوقيةٌ وأشواق؛ لكنها باتت جميعًا نادرة الاستخدام، قلَّما يُدعى بها المواليد الجُّدد رغم المعنى الطيب. يُذكَر من ضِمن الممثلين الذين اشتُقَّت أسماءَهم من الشوق الفنانان فريد شَوقى وشَوقى شامخ، كما يُذكَر مِن فطاحلِ الشُّعراء أحمد شوقى، ومن علماء اللغة وأربابها شَوقى ضَيف.
• • •
غنَّت أم كلثوم: أنت يا قبلة روحى واشتياقى من قصيدة «أغدًا ألقاك» للشاعر الهادى آدم وألحان عبد الوهاب، كذلك غنَّت: لا أنا أد الشوق وليالى الشوق فى «سيرة الحب» كلمات مرسى جميل عزيز وألحان بليغ حمدى، أما عبدالحليم حافظ فقد غنَّى: اشتقت إليك فعلمنى ألا أشتاق.. علمنى كيف يموت الحبُّ وتنتحر الأشواق من قصيدة «رسالة من تحت الماء» التى وضعها نزار قبانى ولحنها محمد الموجي، والحق أن الشَّوق يقع فى الأغنيات القديمة مَوقعًا مُتميزًا رفيعًا إذا ما قِيس بمَوقعه الأحدث. مُقارنة الاستخدامات بين الأزمان المتباعدة كاشفةٌ؛ تُبرِز التراجُع على صعيد القُّدرات الإبداعية ومَهارات الصياغة؛ ولا يتعلق الأمر بمُتطلبات العَصر وفُروضِه التى نلصق بها خيباتنا الفنية المتنوعة؛ بقدر ما يعكس الاستسهالَ فى عملية الكتابة، وتغليبَ الدارجُ على المُتميّز الفريد، والبحثَ عن السَّجع الذى يجذب الأذن دون اعتناء بالمعنى، واللجوءَ للأساليب المُباشرة بدلًا من بذل الجَّهد فى إيجاد الصُّور الجمالية الباعثة على التأمل والتفكر ثم الإعجاب.
• • •
المُشتاقون للسُّلطة، المتصنّعون للهَيبة، التَّواقون للظُّهور؛ عادة ما يثيرون السُّخرية ويستجلبون الضَّحكات، وفى شخصية عبده مُشتاق الذى كان بطلًا لكاريكاتير مصطفى حسين وأحمد رجب وأدى دوره القدير حسن حسنى من خلال مسلسل «ناس وناس» بأواخر الثمانينيات، نموذج لاذع وبليغ. عبده يَحملُ سيماء الوَجاهة والأهمية، يتوقع أن يلتفت إليه مَن بيده الأمر فى أيّ لحظة؛ فيقلده مَنصبًا رفيعًا، تهفو نفسه إليه وتتنازعها الأشواق. ربما غاب عبده مُشتاق عن المشهد فى الأعوام الأخيرة ولم يعد له حضور لافت.
• • •
فى زمن الرسائل الورقيَّة المطوِيَّة بحرص، والمَخفية داخل مَظروف يحمل طابعًا أنيقًا؛ كانت هناك ديباجات مألوفة تُفتَتح بها الفقراتُ وتُختَتم أيضًا، منها: تحية طيبة وبعد، نتشوق لرؤياكم، وكذلك: قبلاتى وأشواقى. لم يعد لهذه التعبيرات مَحَلٌّ بعدما انقرضت الكتابةُ باليد، وحلت الوجوه المرسومة بانفعالات متنوعة ــ لكنها جامدة ــ مَحل كثير الكلمات، والحقُّ أن جُملةً صادرةً من الرأس أو نابعة فى التوّ من القلب؛ لأعظم قيمة من مائة وجه مُكرَّر مُصطنَع، لا يحمل فى كثير الأحيان أىَّ مشاعر حقيقية.
• • •
«إنى لأحمل فى هَواك صَبابة.. يا مِصر قد خَرجت عن الأطواق»؛ بيت شعر ألقاه محمود ياسين ضمن نشيد «يا مصر يا غالية» الذى قدمته وَردة. قصيدة «كم ذا يكابد عاشق» لحافظ ابراهيم من أروَع ما كُتِب فى هذا الإطار، والصَّبابة حرارةُ الشَّوق ورقته، أما عن الصوت الأجشّ الرَّخيم، ومخارج الألفاظ الموزونة الحازمة، والأداء الهادئ الواثق والأبىّ فى آن، والَّلحن المُهيب لعبد الوهاب؛ فجميعها عوامل أكسبت النشيد من البهاء ما يجعله خالدًا على مرّ العصور.
• ••
التشويقُ والإثارةُ سمتان مُلازمتان لأفلام الرُّعب بغير استثناء ولنسبة كبيرة من أفلام الحركة؛ والحق أن كليهما يتوخَّى جذب الجماهيرِ إلى حيز الانفعالِ العنيف. قليلةٌ هى الأفلام المصرية التى أصابت نجاحًا لافتًا فى هذين المضمارين، على عكس ما حقَّقت الأفلام الهوليودية التى تتمتع بميزانيات شديدة الضخامة، وبإمكانات متقدمة.
• • •
فى كثير القعدات التى تجمع أصدقاءً قدامى؛ يغدو الحنينُ إلى الماضى وإبداء التشوُّقُ لرحيقه والجَّهر بأمنيات العَودة إليه؛ حديثًا مُحبَّبًا ومريحًا؛ لكنه مُستَدِرٌ فى الوقت ذاته لفيضٍ من الأشجان. يستدعى بعض الناس عقودًا خلت من القرن العشرين بامتنان، وبعض آخر يستدعى قرونًا أسبق لم يعشها؛ إنما كَوَّن عبر القراءة عنها صُورةً فاتنة. عادة ما نقصد بالماضى حقابًا وعهودًا وَلَّت منذ زمن بعيد، وحملت طابعًا خاصًا على أصعدة مختلفة؛ منها التنظيم الاجتماعي، نمط المعمار، البناء الاقتصادى، الخطاب السياسىّ المُوجَّه نحو الإقليم والعالم الأوسع، الملبس والمأكل والصيحات المستحدثة فى مجالات شتى.
• • •
ظاهرةٌ غريبةٌ أن يتحول ذكر الماضى هذه الأيام إلى إشارة قريبة بل شديدة القرب. يذكر الناس ما كان بالأمس فقط، ويصرحون باشتياقهم الغامر إليه.