تتقدم فى العمر كما كل مخلوقات الكون، تكبر ثم تشيخ وتبدو العلامات واضحة رغم أن الكثير يقاوم تلك الأعراض أو على الأقل يعملون جاهدين على تأخيرها ولكن تبقى الساعة تجرى سريعا والشمس تشرق وتغرب أسرع من مخيلة الكثير منا. نردد جميعا عبارة «الوقت يركض أو يجرى» فيما نناقض ما نقول وبشكل يومى دون أن نعى ذلك خاصة وإذا كان الفرد ينتظر الطبيب الذى تأخر فى فحص المريض الذى سبقه أو عند الوقوف فى زحمة المواصلات التى أصبحت سمة العصر فى العديد من مدن العالم أو حتى عند وقوف الكثيرين والكثيرات فى طوابير طويلة أمام المخابز للحصول على الرغيف أو العيش الذى هو تعبير حقيقى عن أن فقراء هذه الأمة يعيشون عليه فيما أولئك من الشرائح العليا الصغيرة يرددون «أنا لا آكل كارب» فى اختصار للكربوهيدرات التى هى تساهم فى زيادة الوزن والإخلال بأحد شروط الرشاقة المطلوبة!!
•••
يخاف الكثيرون أن يشيخوا ويرددوا «ليت الشباب يعود يوما» فيما لكبر السن كثير من الجمال الذى لم نتعلمه فى كتبنا الدراسية ولا فى مجتمعات تعيش على هامش اللحظة وتتصور أنها صانعتها وهو أحد كثير من أوهامها التى تعيش عليها وتشربها وتطعمها لشعوبها صباحا ومساء.
•••
تشيخ دون أن تعرف كيف؟؟ لم تتعلم سوى الخوف من هذه المرحلة التى هى نحن كلنا ولا أحد يستطيع أن يتفادها مهما خزن من أموال وذهب. تخاف اللحظة لأن طبيبك يردد عليك منذ أن تدخل الأربعين أو الخمسين بأن عليك أن تراقب تفاصيل يومك حتى أنفاسك ويسرد لك قائمة طويلة من الممنوعات تضاف إلى الممنوعات التى تضعها حكومتك ودولتك المصونة!!
•••
تعرف أن الممنوعات هى جزء من حياتك فى كل مراحلها تزداد أحيانا حتى تخنقك فى الشباب فيقال لك انتظر عندما تكبر فستتعود عليها أو ستتعايش معها أو حتى ستعرف لماذا وضعها الحاكم بأمره ومن حوله.. ولكنك تشيخ فلا تعتاد الممنوعات ولا تتقبل أن كبر السن يعنى أن «تركن على جنب» وتترك الفسحة للقادمين المسلحين بالعلم الحديث والمعرفة والجميلات من الفتيات الرشيقات الحاضنات لأحلام مجتمعك أكثر حاجة لها.. يلقنونك هذه المفاهيم منذ الصغر حتى اقتنع الكثيرون منا بها و«ركنوا» على جنب.
•••
البعض فكر فى التقاعد المبكر وما زال سيقبض مرتبا معقولا يعيش منه ويعتاش ــ طبعا لم يدركوا أن الأيادى ستمتد لتقاعدهم أيضا عندما تفرغ الخزائن بسبب سياسات اقتصادية أقل ما يقال عنها أنها فاشلة ــ وآخرون يرددون هذا وقت نجلس فيه ونستمتع بالحياة فقد عملنا لسنين طويلة وهذا ما يقوم به الكثير من المتقاعدين فى الدول التى تحترم مواطنيها ومواطناتها وتقدم لهم مقابل ما دفعوا من سنين عمرهم لأوطانهم.. ولكن حتى هم لا يتركون الحياة ويستقيلون منها فيتحولون إلى أشباه عالة على مجتمعاتهم أو يركنون إلى اكتئاب يتلون بألوان عدة.
•••
من يتمرد على مفهوم الشيخوخة عند مجتمعاتنا هو من يعمل لكسر كل تلك المنظومة الأخلاقية التى صنعوها هم فالحاكم الذى يشيخ لا يتنازل و«يركن» على جنب بل يستمر فوق الكرسى حتى يهرم الكرسى ويبقى هو!!
•••
تكتشف أن الشيخوخة لا تخص الطبقات الصغرى الجالسة فوق رقاب العباد تعلمهم كل يوم «الأدب» وخاصة عندما يعلو صوتهم بالمطالب فهى من تقول لهم «احمدوا ربكم واشكروه أننا لم نضع ضريبة على الهواء والبحر». رغم أنهم تقريبا فعلوا ذلك عندما تركوا الأغلبية تعيش على هامش الأقلية سواء فى السكن أو الصحة أو الغذاء أو الدواء أو الترفيه وهو حق طبعا.. كل ذلك محلل لتلك الشريحة القابضة على مصير الأغلبية.
•••
الشيخوخة تتحول لمرض فقط للفقراء وما بينهم وبين القبيلة الجديدة من الأثرياء الذين لا يشيخون ولا تشملهم ثقافة «اركن على جنب» لأنك قد هرمت.
•••
أن تشيخ أو تكبر أو تهرم أو حتى تتقدم بالعمر هو أن تنضج وتتعلم كيف تختار مفاصل حياتك كلها وكيف تركز على ما تحب وما يريحك وما يجعلك أكثر فرحا إن لم يكن أكثر سعادة ولا يعنى ألا تعمل ولا تقرأ ولا تكمل ما تحب بل أن تبقى حتى آخر نفس، كما قال لى ذاك الشيخ الحكيم الذى علمنى الكثير، تعلم وتتعلم وتعمل وتخدم وتتحرك ولا تتوقف فقط لأن سنين عمرك تقول أرقامها.. الشيخوخة أن ترقص وتغنى كلما حانت فرصة الفرح أو حتى أن تخلق وقتا لترقص وتحرر جسدك الذى لم يشخ إلا بفعل مفاهيمهم وأن تغنى بصوتك عاليا لتلك الأغنية التى تعرفها منذ زمن أو التى انتشرت مؤخرا فطربت لها.. الشيخوخة هى أن تعيش حياة تختارها لا يختارها لك الآخرون وأن تثور على كل منظومتهم وليس أولها مفاهيمها التى وضعوها لك أنت فقط ولمن مثلك أما هم فهم فوق هذه المفاهيم وأعلى منها لأن القابض على قوتك واقتصادك والرقيب على أفكارك وأنفاسك وكل ما تنطق به أو حتى تفكر فيه هو من يريدك أن تشيخ أيضا وألا تساهم فى قول لا لما يفعلون بحجج كثيرة أولها أن كبار السن عليهم أن يصلوا ويتعبدوا فقط فى انتظار القبر وجنات الخلد عجبى!!