فى صفاء يوم صيفى قرب البحيرة والشمس تصارع بأشعتها بين غيمة وأخرى فتسرق لحظات ترسل من خلالها دفئها... جاء النادل ومعه طلبها، كوب من القهوة بالحليب. لاحَظت قطعة البسكويت التى وضعها على حافة الطبق. عادت إلى قراءة جريدتها وخاصة تلك المقالة عن السرقات الكبرى التى شهدها التاريخ القديم والحديث منه. هجم سرب من العصافير واقتربت مجموعة منهم لتجلس على حافة الكرسى أو المائدة.. لم يقترب أى منهم من كوب القهوة ولكن فى لحظة من التأمل لحركة العصافير وهى مجتمعة فيما البشر مفرقون، رحل السرب كما حضر تاركا خلفه بقايا تغريداته الجميلة وفراغ قطعة البسكويت التى اختفت بمجرد أن رحلوا فيما يبدو أن أحدهم انشغل بها والآخرون حاموا حولها وجلسوا قريبين حتى لا يعتقد أى أحد أن لديهم رغبة خاصة..
***
رغم تلك السرقات البريئة تبقى بداية اليوم أجمل وأكثر انشراحا وهى تبدأ بسرب العصافير عن أن تبدأ يومك بنظرات بعضهم! تبقى هى سرقات رقيقة كما رقة العصفور، ذاك الكائن الضعيف الناعم جدا والذى لم يستهو إلا بعضهم ليحولوا صيده إلى هواية وعظمه إلى طعام شهى! حتى تردد هى دوما استضعفوك فأكلوك وإلا لماذا لا يستهويهم لحم الضباع؟
***
وهى فى نهاية الأمر سرقة ترحمك من بضعة سعرات حرارية وكثير من السكر والدهون المخزنة فى قطعة البسكويت البريئة.. تعود لتلك المقالة فى جريدة «النيويورك تايمز» فهناك حملة تطالب كثيرا من الدول الأوروبية والولايات المتحدة من عدم التذمر من المهاجرين وما يقولون إنه عبء إضافى على هذه الدول واقتصاداتها. ويبرر القائمون على هذه الحملة مطالبهم هذه بأن الاستعمار لسنوات طويلة والاحتلال والحروب التى خاضوها فى تلك الدول وكمية الظلم وعدم المساواة التى تعرض لها أبناء الدول المستعمرة والمحتلة والتى عاشت تلك الحروب الشرسة «بالأسلحة الذكية!» إلى جانب مسئولية تلك الدول عن تلوث البيئة بالكربون ورمى النفايات فى بحار الدول النامية عند شواطئها وعلى أراضيها مثل السواحل الصومالية على سبيل المثال لا الحصر حتى عز على الصوماليين، الذين يعانون من الفقر وظلم البشر والطبيعة واستغلالهم، عز عليهم أن يحصلوا على وجبة من السمك الذى كانوا يصدرونه لبقاع الأرض..
***
وهذه حملة لا تطالب بأن تقوم الدول الأوروبية والولايات المتحدة بتعويض الشعوب التى عانت من العبودية والاستعمار والاحتلال والظلم السياسى والاقتصادى والتهميش والعنصرية، لا تطالبهم بأن يرسلوا بحقائب الذهب والدولارات بل أن تفتح حدودها بشكل متساو حتى تكون هناك عدالة فى التبادل التجارى وفى تنقل البضائع والبشر دون حواجز وعراقيل.. هناك اليوم ربع بليون مهاجر من مختلف دول العالم، وهم يهاجرون لأن الأغنياء والدول الغنية والشركات متعددة الجنسية قد سلبت مدخراتهم ومدخرات أبنائهم وأحفادهم وتركتهم بأنظمة وقوانين وأحكام كلها تساهم فى بقائهم تابعين وفقراء ومهمشين على صعيد أوطانهم وبين شعوب الأرض.
***
ويقول البعض من المسئولين عن هذه الحملة إنه على الدول التى استعمرت الشعوب أن تسمح بهجرة أبناء تلك الدول التى استعمروها وعليهم أن يسمحوا لهم ليس فقط كعمالة مؤقتة فعندما ينتهى دورهم فى إعادة الإعمار بعد الحروب العالمية يطالبونهم بالعودة! بل عليهم أن يسمحوا لهم بأن يعيشوا وأن تتوفر لأبنهائهم وأحفادهم فرص أفضل لكسر حلقة الفقر بالعلم والمعرفة وفرص العمل اللائق.. وأن تتوفر لهم كل الحقوق الأساسية للمواطنين..
***
وتذكر هذه الحملة بال 12 مليون إفريقى الذين تم استعبادهم وأنه يحق لأحفادهم أن يعوضوا سنوات الظلم والقهر بفرص أكبر فى الحياة.. كما تطالب بضريبة على الدول الصناعية التى ساهمت فى التلوث وتغير المناخ.. فالولايات المتحدة وحدها مسئولة عن ثلثى التلوث العالمى وأوروبا عن ربع التلوث وفى المقابل تدفع شعوب ودول الجنوب الأثمان المرتفعة من فيضانات وبراكين وجفاف وهجرة ما يقرب من 100 مليون بسبب العوامل الطبيعية..
***
تعود العصافير باحثة عن بقايا كعك أو خبز من أطباق غنية بكل ما لذ وطاب..
كم تبعد تلك العصافير عن أولئك البشر.. هى سرقاتها بريئة وهم يسرقون تاريخ وحضارة ومستقبل أوطان...