جلست الحمامة على حافة الشرفة والتحقت بها حمامة أخرى وأخرى.. هذه المدينة التى لم يكن يسكنها الطير إلا نادرا؛ خوفا من أن يتحول إلى فريسة لقناص الطيور ومن ثم يتحول إلى طبق على مائدة عامرة لا ينقصها حتما أن يكون هذا الطائر الرقيق المسالم جزءًا من تفاصيلها حتى هرب هو بعيدا، ورغم ذلك راحوا يصطادونه مرة خلف أخرى هو ورفاقه من الطيور.
جلست الحمامة على حافة النافذة تراقب المدينة التى أصبحت وطنًا.. كم مدينة أصبحت وطنًا للكثيرين اليوم من الهاربين من رصاص الموت ومطاردات الأعين التى لا تنام، أو حتى من الفقر الذى تحول إلى غول يطارد فقراء هذه الأمة، والرصاص ينهال كالمطر حيث القذائف أكثر من رغيف الخبز.
***
كيف تحولت المدن المكتظة أصلا بساكنيها وأهلها إلى أوطان للقادمين الجدد أحيانا، ترحب بهم وكثيرا ما ينهكها التعب فتدير وجهها النقى عنهم وتخرج أنيابها لتفترسهم وصغارهم الساكنين على حافة الأرصفة.
هم بتلاوين أوطانهم رحلوا مرة ثم مرات، كلما ابتعدوا عن الطلقة طاردتهم القذيفة.. كلما احتموا ببعض مما تبقى من جدران بيوتهم، انهارت هذه الجدران حتى آخر واحد فيها، وهنا لم يكن أمامهم سوى أن يحملوا بعض الملابس والصور لتذكرهم بحياة وأوطان كانت، وكثير من مخزون الذكريات. ومن الرحيل الأول حتى الرحيل الثانى والثالث وربما من مدينة إلى أخرى ثم منها إلى البحر أحيانا بحثا عن مدينة قد تكون وطنًا.
هى المدينة التى تمنحك وطنًا، عندما تتحول المدينة إلى سكن ومصدر رزق ومأوى. فقد يبدو الأمر وللوهلة الأولى عادى جدا فى ظل هذه الغيمة المسودة التى راحت تغطى سماء العرب، ولكن أن تمنحك المدينة أكثر من المكان الذى قد يكون فى الكثير من الأحيان لم تختره ولكنه فرض عليك بحكم الجغرافيا أو التاريخ أو حتى الأمر الواقع ، أن تتحول المدينة فجأة لتصبح هى الوطن، والرصيف هو المأوى، والدكانة هى مصدر رزقك أو معيلك، أو ربما الوقوف عند تقاطع الطرقات حامل أطفالك الأربعة من الرضيع حتى الفتى، فهذه أوطان تحب الأطفال وتكثر منهم لأنها كانت تتصور أو تؤمن أن الطفل يأتى ورزقه معه!! شحت الأرزاق أولا حتى تحولت مؤنة الأيام بعض من الزيتون والملح ورغيف بارد رغم سخونة الجو
***
قديما قالوا فى السفر سبع فوائد لم يدرك هو أو هى أن لرحيلهم أى فائدة سوى البقاء على قيد الحياة.. الطفو فوق سطح الحياة أو المتبقى منها أو ربما الأمل أن من بعد البحر هناك كثير من الخير، وما بعد السفر الأول أسفار أخرى وأن القادم حتما سيكون أفضل مهما كان على درجات السوء المتنوعة أو صعوبات أن تتحول المدينة إلى وطن فى ظل تشرذم الأوطان وتقطع أوصالها وتقسيماتها التى أصبحت إما تابعة للطائفة أو مغلفة ببعضها عبر أسماء منوعة.
يرحل هو وهى من هنا إلى هناك يبحثون عن بعض الأمن والمأوى وربما تعاطف لن يدوم عندما اضطر سكان هذه المدن لتقاسم رغيف الخبز الشحيح مع القادمين الجدد الذين راحوا يتوافدون واحدا تلو الآخر فى بلاد لم تعد قادرة على منح ابنائها بعض الأمن والأمان وشكل من الاستقرار الذى كان. هى أصلا بلاد وزعت ابناءها إلى هنا وهناك أيضا بحثا عن الرزق ولقمة العيش فماذا يستطيع الغريق أن يقدم للقادمين الجدد غير البلل.
***
افترشوا الشوارع والأرصفة وراحوا ينتقلون من رصيف إلى آخر، يمدون أيديهم متوسلين وطالبين المعونة مستعينين بأطفالهم؛ فالكل يعلم أنه من المستحيل أن تقاوم دمعة طفل أو توسلاته بتقديم القليل ليطعم أخوته وأمه. النساء هن الأكثر من بين كل هؤلاء المرتحلين الباحثين عن مدن الأوطان وكثير كثير من الأطفال الذين كبروا بل ربما شاخوا نتيجة كل ذاك الكم من الدمار السريع وسقوط الأحلام البسيطة واحدا خلف الآخر مع تساقط جدران مدارسهم المكتظة أصلا وموت أصدقاء طفولتهم وأحبائهم ورحيل الآخرين سريعا سريعا.
***
عندما يلفظك الوطن لا حضن لك سوى المدن الموزعة هنا وهناك؛ هى المدن المجهدة بناسها وكل أولئك الذين وضعوا أنفسهم حراسًا لها أو قائمين عليها فكثر الفساد والغش والطمع.. هى الأخرى تلونت وأصابها المرض القادم من الجيران والاخوان.. هى الأخرى عليلة وبحاجة إلى اعادة ترميم وتأهيل ولكنها لا تزال تستفيق كل صباح نافضة غبار الأمس وتعب الأيام مدركة أننا وأنهم وكلنا لا نملك إلا ما تبقى منها أوطان لما تبقى منا.. فإما هى أو لا وطن سوى البحر أو ربما قاعه.
***
مدن تمنحك الوطن هى إذن رغم المرض والتعب لا تزال تستقبل القادمين أحيانا تفضل الميسورين منهم طبعا ولكن بعضها يبقى قريبا إلى اولئك الذين يشبهون بعضهم رغم تباعد المسافات، أولئك القابضين على النار والحديد.. أولئك الذين لا تزال قلوبهم مليئة بالحب الذى قال عنه شمس التبريزى «شىء ما سيجعل لك جناحين… شىء ما سيجعل الملل والألم يختفيان … هو الحب».
كم من هذه المدن سيبقى فاتحًا أذرعه، مشرعا أبوابه للقادمين؟؟ قد تصغر المساحات شيئا فشيئا فتضيق المدن بكل من فيها وتتعب من القادمين فتوصد الأبواب والنوافذ وتغلق السماء وتمنع حتى النسمة أن تنتقل أو الغيمة أن تلد مطرًا غزيرا يسقى الأرض العطشى إلا من الدم.