تبتعد عن الأحلام أو ربما الذكريات، وخاصةً الرومانسية والجميلة منها، أو هكذا يُخيّل لك، فيما تفاجئك هى بمطاردات عبر قصاصة ورقة أو بقايا رسائل وصور... ماذا تفعل وهم يقولون أن عوامل «التعرية»، أى السن، قد بدأت ترسم بعض التغييرات على الجسد والفكر أو العقل.. حتى الأمكنة المختبئة بين يافطات مكتظة بكلماتٍ غير اللغة الأم وألوان قد شوهت حتى ما تبقى من الحوارى والشوارع والشواطئ التى كانت.
• • •
تضيع بين الشوارع التى لا تشبه ما كانت عليه والبشر المختلفين واللغات الصادحة، بل هو الصراخ رغم أنك بسيارتك، وتلك المحطة الشيطانية ترسل كل الأغانى من ذاك الزمن الجميل. كيف يلتقى كل هذا الصوت الجميل والكلمات والأنغام والموسيقى بكل هذا القبح الخارجى؟ هكذا غدر مدننا ربما فى الخليج لكثرة الأغراب الذين لم يندمجوا أبدًا، أو هى حتى فى بلدان أخرى عربية وأوروبية حيث كثرت الهجرة وتقوقع المهاجرون أو هم أجبروا فى مناطق معزولة تبدو خارج الجغرافيا والتاريخ معًا!
• • •
تبحث عن المكان والوقت يداهمك، فموعد توقيع الكتاب قد اقترب رغم أنك تعلم أنه سيكون هناك كلمات بالطبع وبعض التقديم وربما حتى ملاحظات سريعة. فموضوع الكتاب هو همٌ يلازم نساءنا من خليجهم إلى محيطهم مرورًا ببحارهم وأنهارهم.. مواطَنة منقوصة أو هى شكل من أشكال الظلم المتعدد الألوان والانساغ التى تعانى منها النساء، رغم أن المواطَنة المنقوصة ليست حكرًا على النساء فى أوطاننا. تقفز عبارة تلك المتمردة منذ سنين عدة وهى تقول لا أريد المساواة بالرجل فى وطنى فهو الآخر دون حقوق.
• • •
تضغط على زر الخروج لتوقف صوت تلك السيدة المزعج من جوجل وهى تتلفظ بأسماء غريبة لشوارع كانت يومًا كلها بأسماء عربية. تحاول أن تتحسس المكان حيث يختفى مبنى الجمعية النسائية العريقة بين غابة من الجراجات ومطاعم الوجبات السريعة التى تبعث بروائح البهارات والقلى المتكرر! بالطبع سأعرف المبنى، فهو الأقدم فى هذه المنطقة. وتسير بعربتك ببطء خوفًا من أن تدهس أحدهم، ففى هذه الأحياء المشوهة لا قوانين تحظر السير فى منتصف الطريق الخاص بالعربات، وكل يتصرف وكأنه فى زقاقه بتلك البلاد البعيدة.. هى ربما ثقافات مختلفة وأنماط عيش و.. و..
• • •
أخيرًا تجد ما يمكن أن يكون الممر المؤدى إلى ذاك المبنى إن لم تخنك الذاكرة الباهتة.. يمر بعض الوقت والموسيقى تبدأ بأغنية «امتى حتعرف امتى، إنى باحبك أنت»، فتسرح بعيدًا لذاك الفيلم وتلك الأغنية والزمان الآخر، ولكن ليس لوقت طويل، فقد داهمك أحدهم وأيقظك من أحلام المساء، ليشير عليك بأن توقفى عربتك فى الموقف القريب وإلا فستضطرين للسير لمسافة طويلة وسط كل هذا الزحام.. وهكذا جاء الفرج تباعًا، فالموقف يعنى أن القدر ابتسم لك فى وسط مدننا المكتظة، وأخيرًا تعرفت على المبنى الذى لا يزال فى مكانه لم يتحرك، ولكن غزته حتى خنقته المبانى الشبه عشوائية! تكتشف لاحقًا أن الموقف هو للمقبرة القريبة من الجمعية! لا يهم، الأموات أكثر سلامًا وسكينة من الأحياء، لذلك فمساكنهم هى الأقرب والأكثر هدوءًا!
• • •
بالطبع طغى الحضور النسائى رغم أن القضية، وهى منح الأم جنسيتها لأطفالها، ليست قضية نسوية بحتة، ولا هى خاصة بالمرأة والأم فقط، ولكن ككل ما يشبهها تبقى حصرًا على فئة بسيطة من ما تبقى من النساء المهتمات والمناضلات فى مجال حقوق المرأة.. رغم ذلك إلا أن أعداد الرجال بدأت فى التزايد بعض الشيء وفى معظمها هى الأخرى من ما يمكن تعريفه بالنشطاء أو المهتمين أو المناضلين السياسيين والحقوقيين.. ما يثير ليس عدم حضور أعداد كافية من الرجال والنساء العاديات، بل اختفاء الصحافة المحلية المشغولة ربما بمرشحى البرلمان وشعاراتهم المثيرة للتساؤل عن خلفياتهم أحيانًا والسخرية فى كل الأوقات
• • •
هى الدراسة الأولى التى تجمع الكثير من المعلومات والأرقام وتغوص فى عمق القضية، أى حق الأم فى منح جنسيتها لأطفالها، وتثير الأسئلة وتنبش المسكوت عنه. وما إن بدأت الكلمات التعريفية والتى تستعرض كل الجهد الذى بذل، حتى زاد عدد الحضور وانضم له بضع سيدات. بدأنا بعض الشىء بعيدات عن أجواء الجمعيات النسائية أو حتى مؤسسات المجتمع المدنى أو العمل فى الحقل العام.. واتضح ذلك مع بداية الوقوف فى انتظار توقيع الباحثة، وهى فرصة للنقاش أو عرض قضاياهن الخاصة.. من بينهن كانت زينب مع حفيدها الصغير، وما إن فتح الحديث معها حتى سردت معاناة طويلة بأسلوبها البسيط دون تنميق أو أى تجميل للصورة، ودون أن توجه اتهاما، فقط تبحث عن حل.. هى كنساء كثيرات مثلها ليس فقط فى البحرين أو دول الخليج بل كل الدول العربية، إلا تلك التى انتصرت النساء فيها بتغيير قانون الأحوال الشخصية ليعطى المرأة كثيرا من الحقوق التى انتقصت مرة باسم التقاليد والعادات ومرات عديدة باسم الدين والطائفة.. كم هناك من كثيرات وآلاف مثل زينب أتعبهن التوسل والجلوس أمام المحاكم والكتابة للمسئولين فى أوطان تفتخر بعدد النساء فى الوزارات والمناصب العليا! عجبى!!
كاتبة بحرينية