هى ليست بعيدة عن المرفأ، والبواخر تعبر بطيئا بين موجة وموجة، وفجأة تختفى باخرة الشحن الحمراء فى الأفق، فتبدأ هى فى مطاردة الباخرة القادمة بعينيها وهى تبحث عن شىء ما.. هى نفسها لا تعرفه ولكنها تدرك حتما أن أكثر ما يبعث للأمل فى صدرها هو الجلوس عند حافة الشاطئ البعيد عن الضوضاء القريب من الموجة حيث هى جارة للنوارس.
***
لم تعرف الموانئ إلا تلك التى كانت عند نهاية شارع بيتهم بعد خزان الماء المعروف محليا بـ «تانكى الماى» الذى يزود كل مدينتهم بالماء شديد الملوحة. حيث كانت السفن الشراعية التقليدية مرصوصة الواحدة جنب الأخرى، لم تعرف الموانئ التى تعج بضجيج البواخر العملاقة حتى تلك الرحلة الصيفية التى تبدو اليوم وكأنها تسكن بين الحلم والواقع.. فى صيف حار قرر والدها أن يأخذهم فى باخرة سياحية ليتجولوا فى البحر المتوسط المعروف عند الكثيرين بالبحر الأبيض المتوسط ولا يعرف أحد أن يفسر لماذا هو باللغة الإنجليزية وكل اللغات البحر المتوسط إلا فى اللغة العربية فهو أبيض.. ربما لكثرة الزبد فى شواطئه أو ربما لتسمية قديمة بقيت عالقة به.
***
بدأت الرحلة من إيطاليا فى ميناء جنوة أو نابولى هنا سقطت الذاكرة رغم أن كثيرا من التفاصيل الدقيقة بقت مخزنة لسنين طويلة ولم تندثر تحت غبار الأيام.. كانت الباخرة شبيهة بما نراه اليوم فى الأفلام التاريخية، حيث القاعات الفخمة والمطعم الرئيسى بالطراز الإيطالى الأصلى والمسبح فى النهار وغرف البلياردو.. علقت هى بموجة منذ تلك الرحلة وبقيت سجينة الموج والبحر.. تبقى المدن البحرية الأقرب إلى قلبها والأكثر نشرا لموجات من الضحك والسعادة، ولا تسعد بالمدن التى لا تسكن قريبة من الماء.. ماء هو فى شكل بحر أو ماء هو فى شكل نهر أو فى بحيرة ولكن لا شىء يشبه الموجة التى تسكن قلبها.
***
نقلت تلك الباخرة الفاخرة العائلة الخليجية إلى عوالم مختلفة شديدة الجمال من موسيقى وتاريخ وتراث وفن وحضارة وأزياء راقية وبشر متحضرين جدا لديهم الكثير من الأخلاقيات التى قد لا تتوافر فى الكثير من الأقرب لهم.. حينها لم يدرك الأطفال والصبايا أهمية الرحلة، كان شغفهم بالوصول السريع إلى النقطة الأخيرة فى الرحلة، وهى بيروت، ليستقروا فى الجبل، حيث يصيف معظم أهل الخليج وحيث يقضون المساءات سيرا على أرصفة عالية ذهابا وإيابا، معوضين عن أشهر العزلة بين الجنسين فى دولهم المختلفة.. هنا يكثر الهمس وتبادل أرقام الهواتف والمواعيد عند الغروب بعيدا عن الأعين ربما على حافة الجبل أو فى نهاية الضيعة.. أو ربما حتى عند محل العصير.
***
لم يدرك الصغار أن هذه الرحلة ستفتح أمامهم عوالم لن يستطيعوا الوصول لها دون هكذا تجربة غنية وبعيدة عن النماذج الروتينية فى الرحلات الصيفية لأبناء الخليج فى تلك السنوات.. فلم تكن رحلة للتسوق ولا لزيارة المطاعم والمراقص ولكنها كانت شكلا من أشكال الغوص فى عمق الحضارة الأوروبية بتنوعاتها واختلافاتها والاقتراب من شعوب قد تتقارب معهم فى كثير من الأمور ألا يقال إن كل سكان الضفة الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط يتشابهون فى طريقة الكلام بالنبرات العالية والسرعة والجلوس لساعات لاحتساء القهوة والتمتع بتذوق الطعام والاسترخاء فى قيلولة لساعات قبل عودة الروح لشوارع تهجر بالكامل فى ساعات الظهيرة.
***
فى الإسكندرية حيث المحطة ما قبل الأخيرة نزل كل الركاب للسفر إلى القاهرة لزيارة الأهرامات والآثار الفرعونية فيما بقيت العائلة وحدها على ظهر تلك الباخرة التى بدت حينها عملاقة فيما هى صغيرة مقارنة بالبواخر السياحية الحديثة الآن. كانت الأسرة بكاملها قد تعرفت على الآثار فى مصر القديمة والفرعونية فى عدد من الزيارات السابقة.. تجمع البائعون حول الباخرة عند رصيف الميناء وصاروا ينادون على بضائعهم هذا يحمل نماذج للأهرامات وأبوالهول وذاك يحمل ورق البردى وثالث ينادى على الكركديه والسودانى.. تنوعت البضائع والطريقة واحدة.. والعائلة تتطلع لهم بملل شديد فالوقوف فى ميناء لمدة يومين ليس من ما يثير فضول الشباب والأطفال.. حتى قفز أحد الباعة وبخفة الدم المصرية ليوجه كلمته لها بالتحديد «نفعينى والنبى، ده سنجام فيلم حلو» يضحك الجميع حتى يغشوا من الضحك، خاصة وأنه وجه الحديث لأحدهم وهى الأكثر سمارا متصورا أنها هندية، وهنا طبعا موضوع للندرة بين الأخوة.. بعد ضحكهم قال «إيه عرب طيب نفعونى»، فكان له ما أراد..
***
هذه ذاكرتنا حتى آخر العمر.. هذه بقايا صور فى استعارة من الرائع حنا مينه.. كلما ضاقت مساحات الأمل، كلما عدنا لهذه الصور ننبشها فنعود للتعرف على أنفسنا ربما ونخزن بعضا من جرعة أمل.
كاتبة بحرينية