مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسى فى مصر يواجه الرئيس القادم مجموعة من التحديات والمعضلات التاريخية التى يتوقف على حلها إحداث نقلة نوعية فى المسار الديمقراطى والتنموى للبلاد. ومن الضرورى أن يتم تحقيق استقرار فى الحالة الأمنية المضطربة والبدء فى إجراءات العدالة الانتقالية الناجزة. إذ بدون ذلك من الصعب الانطلاق نحو برنامج لإعادة البناء وخروج مصر من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة. وبعد استيفاء هذه الشروط الأولية تتلخص أهم التحديات التى تواجه الرئيس الجديد فى القضايا التالية:
• إرساء مقومات الدولة المصرية الحديثة التى ترتكز إلى المؤسسات وقوى المجتمع المدنى المنظمة والفاعلة بعيدا عن الفردية والشخصانية.
• وضع برنامج للنهوض الاقتصادى يحقق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لتحقيق انطلاقة اقتصادية واجتماعية مستحقة منذ سنين طوال.
• إدماج قطاع الشباب (خاصة الشريحة العمرية من 20 ــ 30 عاما) فى العملية السياسية والعملية التنموية، إذ يعانى هذا القطاع من حالة شديدة من الإحباط والاغتراب ويحتاج إلى عناية خاصة لتلبية طموحاته والتقليل من أزمته المعنوية.
• إطلاق برنامج واسع لتطوير العشوائيات التى تضخمت خلال العقود الأخيرة وأصبحت تضم الملايين الذين يعانون من الفقر والتهميش على الصعيدين الاجتماعى والاقتصادى.
•••
وكل هذا يقتضى إجراء مجموعة من الجراحات الدقيقة وحل مجموعة من المعادلات الصعبة للانتقال من الوضع الراهن إلى مسارات جديدة قائمة على تعبئة وتنمية الموارد والطاقات الحية والإبداعية لهذا المجتمع.
أولا: بناء مؤسسات الدولة الحديثة
تحتاج مصر أكثر من أى وقتٍ مضى إلى بناء مؤسسات حديثة، فمنذ بداية بناء مؤسسات الدولة المصرية الحديثة فى عهد محمد على وفى أعقاب ثورة 1919 وفى أعقاب ثورة 23 يوليو 1952 لم يتم تطوير البنية المؤسسية للدولة المصرية خلال الاربعين عاما الماضية.
وقديما قال أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد إن نهضة مصر لا تتحقق إلا بوجود جامعة قوية وبرلمان منتخب ديمقراطياُ وقضاء شامخ، فهناك ضرورة لتصحيح التشوَه البيروقراطى والتكلس والترهل الذى أصاب مؤسسات الدولة المصرية خلال الأربعين سنة الماضية. الأمر الذى يستدعى ضخ دماءٍ جديدة وشابة فى هذه المؤسسات بما يتفق مع روح ثورة 25 يناير لتحقيق مصالح الناس والمجتمع.
وهذا يقتضى بدوره تلافى أخطاء الماضى ولا سيما خلال الحقبة الناصرية التى رغم إنجازاتها الكبيرة فى مجال التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى قامت على أساليب التعبئة العامة البيروقراطية والالتفاف حول الزعيم الملهم دون بناء تنظيمات قوية شعبية ومؤسسات فاعلة فى المجتمع المدنى لتحصين التجربة من التراجع والانتكاس. كذلك لا نريد أن نكرر ما جرى خلال فترة حكم حسنى مبارك حيث كان ما يسمى بالاستقرار القائم على الركود السياسى وتحنيط المجتمع وتعقيم قواه الحية مما أدى إلى نمو تنظيمات الإسلام السياسى (إخوان وسلفيين) لكى تعشش فى بنيان المجتمع دون مقاومة ودون صراع سياسى حقيقى.
ثانيا: برنامج طموح للتعافى والانطلاق الاقتصادى
تعتبر الأوضاع الاقتصادية أهم التحديات التى تواجه الرئيس الجديد إذ يعانى الاقتصاد المصرى من عدة اختلالات، بل اعتلالات، تتمثل فى انعدام التوازن بين الإرادات العامة والنفقات العامة فى موازنة الدولة، والعجز المزمن فى الميزان التجارى نتيجة ضعف تغطية الصادرات السلعية لفاتورة الواردات السلعية، والاختلال فى هيكل الأجور، والأزمة فى سوق العمل التى نتج عنها تراكم رصيد كبير من المتعطلين ولاسيما فى صفوف الشباب المتعلم. ولعل هذه الاختلالات هى تعبير عن أزمة أعمق فى بنية الاقتصاد العينى (الإنتاج، الإستثمار، الاستهلاك، الصادرات، إنتاجية العمل، البحث والتطوير). ولمواجهة هذه الاختلالات لابد من خطة طويلة الأجل تتضمن خططا متدرجة للقضاء على هذه الاختلالات ووضع الاقتصاد المصرى على مسار تنموى متواصل.
وعند وضع هذه السياسات يجب حساب الآثار الاجتماعية التى تترتب على هذه الخطوات التصحيحية، لأن التركيز على اعتبارات النمو وجذب الاستثمارات الأجنبية دون التوزيع العادل لثمار هذا النمو بين الفئات الشعبية ومحدودة الدخل وبين المناطق الأكثر فقرا فى صعيد مصر يعتبر نقوصا عن أهداف ثورة 25 يناير التى رفعت شعار العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ولنا فى التجربة البرازيلية عبرة، إذ حققت البرازيل فى ظل رئاسة فرناندو كاردوسو (الذى يعتبر من أبرز الاقتصاديين فى امريكا اللاتينية) معدلات نمو عالية للناتج المحلى الإجمالى لكن دون أن تصل ثمار هذا النمو للفئات والمناطق الفقيرة والمحرومة. ولهذا جاءت هزيمة كاردوسو فى الانتخابات الرئاسية التالية لصالح الرئيس لولا دا سيلفا عام 2002 الذى وضع برنامجا اقتصاديا يوازن بين اعتبارات الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وفى بعض البلدان مثل الولايات المتحدة الامريكية يوجد مجلس للمستشارين الاقتصاديين للرئيس يعطى المشورة والنصح للرئيس ومنفصل عن المجموعة الاقتصادية الوزارية لتوسيع النظرة لتقييم السياسات والبدائل المطروحة لحل الأزمات الاقتصادية.
ثالثا: استهداف الشريحة العمرية من 20 ــ 30 من الشباب
يجب ان تولى الرئاسة القادمة اهتماما خاصا بشريحة الشباب خاصة الشريحة العمرية 20 ــ 30 سنة الذين يشكلون نسبة 29 % من جماعة الناخبين، وهى شريحة هامة بالنسبة لاستحقاقات المستقبل وتحتاج إلى عناية فائقة فى التعامل معها. لأن هذه الشريحة من الشباب نشأت فى ظروف تتسم بالقهر الاجتماعى والاستبداد السياسى ولم تنشأ فى إطار حياة سياسية وثقافية صحية كما كان الحال بالنسبة لأجيال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فغلب على سلوكياتهم طابع التمرد دون أفق سياسى واضح، ورغم أنهم كانوا وقود ثورة 25 يناير. إلا أنهم يقفون اليوم فى مفترق طرق ويعانون من الإحباط والتهميش السياسى.
ونظرا لعدم وجود أوعية حزبية مقنعة تحتضن هذا الشباب نجدهم أصبحوا نهبا لتيارات فوضوية ومواقف سياسية متطرفة نتيجة ضعف الثقافة السياسية مما لا يتناسب مع ما لديهم من طاقة ثورية واستعداد للتضحية والفداء. وجانب مهم من هذا الجيل لا ينتمى للتيار الإسلامى الذى احترف القيام بأعمال البلطجة السياسية المنظمة، ولكن يغلب عليه طرح شعارات تتسم بالشطط ولا تفتح الطريق للالتحام بمسار ديمقراطى يمهد الطريق لانتخابات برلمانية تتسم بالتعددية ليكونوا جزءا من عملية البناء للدولة المصرية الحديثة.
ورغم سلوكيات هذا الشباب فلابد التعامل معهم بحكمة وسعة صدر لمراعاة مشاعر الإحباط واليأس التى تنتابهم، ويقتضى ذلك عدم استخدام العنف والقمع المفرط. إذ إن هؤلاء قد يشكلون خميرة جيدة للمستقبل إذا راجعوا مواقفهم واكتسبوا مزيدا من النضج والخبرة السياسية.
وتعبيرا عن الحالة النفسية التى يعيشها بعض أبناء هذا الجيل ما كتبه أحد هؤلاء فى تدوينة على موقع التواصل الاجتماعى (فيسبوك): «كُتب على جيلنا أن نحضر جنازات بعض بدلا من أن نحضر افراحهم». فبدلا من قصف أعمارهم، وإذا اضطرت السلطات لاعتقال فريقًا منهم بتهم غير ملفقة وظروف اعتقال إنسانية قد تكون مناسبة لمراجعة الأفكار والمواقف كما حدث فى جميع الحركات السياسية السابقة بما فيها (الجماعة الإسلامية).
ولنا فى تجربة شباب فرنسا الذى تمرد ضد حكم ديجول عام 1968 عبرة، إذ تحول جانب كبير من هؤلاء إلى رافد للحياة الثقافية والسياسية فى فرنسا خلال السنوات اللاحقة. فدعوا كل الازهار تتفتح حتى نصل لمرحلة الرشد السياسى المنشود.
رابعا: تطوير العشوائيات
وفقا لبيانات الدراسة التى قام بها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار (عام 2007 ) بلغ إجمالى المناطق العشوائية فى مصر 1171 منطقة، وتم تقدير عدد سكان تلك المناطق العشوائية بنحو 15 مليون نسمة، وبلغ عدد سكان العشوائيات فى القاهرة الكبرى وحدها نحو 6.1 مليون نسمة، بنسبة 41% من إجمالى سكان العشوائيات فى جميع المحافظات. ولا شك ان بيانات تعداد السكان القادم ( 2016 ) سوف تفصح عن تضخم تلك هذه الأعداد.
وإذا كان هناك معنى لشعار الكرامة الإنسانية الذى رفع فى ثورة 25 يناير فإن التطبيق الفعلى لهذا الشعار يكمن فى تطوير تلك المناطق العشوائية وتصفية الاوضاع غير الإنسانية التى يعيش فيها سكان هذه المناطق.
وبالطبع هذه العملية الجراحية الكبرى تحتاج عدة دورات رئاسية، ولكن البداية الهامة يجب ان تكون من أولويات الرئاسة القادمة. وفى هذا المجال يجب تعبئة جميع المساعدات الإنسانية والإنمائية لتطوير تلك العشوائيات التى نمت وترعرعت فى العقود السابقة.
وإن كنا نتحدث عن المواطنة فى كثير من الخطابات السياسية السائدة فإن جوهر فكرة المواطنة أن ألا يبقى نحو 20 مليون نسمة يعانون من الظلم الاجتماعى ويعيشون فى ظروف غير آدمية من حيث المسكن وانعدام المرافق الرئيسية ولا يتمتعون بحقوق المواطنة فى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين.
•••
تلك القضايا لا تحتمل التأجيل ويجب ان تكون على رأس أولويات الرئيس القادم. وفى ضوء هذه التحديات تواجه الرئاسة القادمة منعطفا تاريخيا مهما للخروج بالبلاد من حالة الإنهاك المادى والمعنوى إلى حالة الانطلاق على مسار ديمقراطى وتنموى جديد باعتبار تلك الفترة الرئاسية ستكون نقطة فارقة فى تاريخ مصر الحديث لتكون المنعطف الثالث للنهوض السياسى كما حدث فى اعقاب ثورة 1919 والنهوض الاقتصادى والاجتماعى فى أعقاب ثورة 1952. بالطبع تلك تحديات جسام ولكن هناك أيضا آمالا كبيرة للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية والمعنوية التى يمر بها المجتمع المصرى.
«وما استعصى على قومٍ منال.. إذا كان الإقدام لهم ركابا».