تمر بالمقاهى كثيرا، ربما باحثا عن أولئك الذين قال عنهم محمود درويش أن تعيد المقاهى ولكن هل تستطيع أن تعيد الرفاق.. كانوا يقولون إن فى كل مدينة مقبرة ولم يقولوا إن فى كل مدينة مقهى أيضا، وهو الذى كان الفضاء الذى يجتمع فيه الشعراء والأدباء والسياسيون والناشطون وكل المعنيين بالشأن العام والنائمون فى بحور من القلق على مستقبل وطن كان أو أمة فتتتها النزاعات والمصالح الضيقة والخيانات المتكررة ليس للوطن فحسب بل حتى للتاريخ والدين وكل المنطق …
***
كلما حللت بمدينة عدت لتبحث عن ذاك المقهى وكأنك تنبش فى كراسة الذكريات ربما محاولا أن تبقى ذاكرتك حية وأنت تعلم كم من الأصحاب والرفاق قد سقطوا ضحية الـ«ألزهايمر» وأمراض فقدان الذاكرة أو ربما بحثا عن مساحة من الجمال كانت وبعض الأمل فى سماوات الظلمات الحاضرة والقادمة…
***
بتلك المدينة العريقة وأنت فى ساعات الجرى الصباحية بين اجتماع وآخر، تتوقف عند ذاك المقهى وتبحث عن الوجوه المتعبة من عبق الأيام أو زحمتها.. لا يحزنك أن وجوها جديدة قد احتلت تلك الكراسى المرتصة ولا أن «الشيشة» غزت هذه المقاهى العريقة أكثر وأكثر ولا أن البعض قد رحل سريعا فترك خلفه كرسى مع بعض قصاصات كتب وكثير من الأحاديث والنكت.. ما يحزنك حقا أن بعض أو كثير من تلك المقاهى قد تحول إلى عدم أو مسخ مقهى أو حتى هدم لمحو آخر ما تبقى من الذاكرة وفى مدن أخرى طاردت البنوك والشركات المقاهى العريقة فاستولت عليها وحولتها إلى مجرد مقر جديد أو مساحة لتداول الأوراق النقدية أليست هى الأهم الآن من أى جهد ثقافى أو حضارى فى أى بلد عربى؟؟؟؟؟
***
شوهت المقاهى أو سقطت فى بحر ثقافة الاستهلاك المادية البحتة.. يقول ذاك الصحفى المحبط «كلما أغلق مقهى فتح مطعم للوجبات السريعة وهو الأكثر ربحية لأصحابه كلهم يبحثون عن الربح السريع.. بل ربما كلنا..» يسكت قليلا ويأخذ رشفة من كوب شايه منزوع السكر ذى المذاق الغريب ويحمل بعض كتبه ويرحل بعيدا ربما فى بحر اكتئابه أو ربما حتى يبقى بعض الصور الجميلة نابضة فى الذاكرة المتهالكة..
***
بين هذا وذاك يبقى الأصدقاء أو ما تبقى منهم يحملون أوراقهم ويرتحلون بين مقهى ومقهى آخر فلم تعد المقاهى تحب الجالسين طويلا بل تحب «الزبائن» الخفيفى الظل الذين يصرفون أكثر ويجلسون أقل.. ثقافة جديدة على ثقافة المقاهى الكلاسيكية التى هى فى مجملها الجلوس مطولا وتأمل المارة والبحث عن قادمين جدد للبدء فى حوار يتنوع بين السياسة والثقافة والفن وكثير من الموسيقى والجمال الإنسانى النادر..
***
فى الأيام الصعبة يبحث الصديق عن آخر حقيقى، هو ذاك الذى قيل دوما إنه مرآة الآخر الذى يعكس صديقه دون كذب أو نفاق وهو القادر على فهم ما يدور بذهن صديقه أو بقلبه وهو الذى يجمع ما تبقى من الأصدقاء لمساعدة ذاك الرفيق الذى يمر بظرف طارئ صعب وهو الباقى الذى يرافق صديقه كالظل حتى ولو كان من بعيد فالظل لا يترك صاحبه وقت الشدة والظل لا ينكر صديقه لأى سبب كان..
***
سيقولون لك إن الصداقات قد شحت كثيرا وأن الرفاق لن يعودوا، ولن يعود من يعوضهم، ويرشدوك إلى دليل المسكين فى زمن السكين !!! ويكثرون من العبارات حول سذاجة تلك المرحلة وذاك الجيل وأن المصالح هى التى تحكم العلاقات بل سيسعون لإقناعك بأنه حتى فى ذاك الزمن الجميل لمقاهى الرفقة الطيبة كانت المصلحة هى من تجمع الرفاق.. صعب أن يصدق أو أن يقبل المرء أن فى زمن التمزق رحلت الصداقات ولم يبق لك سوى القبيلة والطائفة لرفقة الزمن المتبقى.. صعب أن تصدق أن الاختلاف فى الرأى السائد قد عمق الشرخ ورحل كل إلى سربه يغرد مع باقى الغربان وليس الطيور بغنائها الشجى.. صعب أن تصدق أنه عندما وقعت لم تجد اليد التى تمتد نحوك ترفعك من الأرض فتعود لوقفتك الشامخة.. صعب أن تتصدع العلاقات إلى درجة تصبح هى والمقاهى مواد لحنين دائم.. صعب وصعب أن تبكى غزيرا فى مساءات عربية شديدة الظلمة فلا صدى إلا لنحيبك وأنغام موسيقى ذاك الزمن الجميل عندما كان الصديق يدرك تعبك من نبرة صوتك عبر الهاتف فيرحل مسافات ليكون هنا معك…
***
رحلت المقاهى ورحل الرفاق فلم يبقى لك إلا أن تقبض على صور الذاكرة الجميلة حتى لا تفقد الأمل بأن زمنا آخر أجمل قادم كما قال ناظم حكمت وكررها مرارا حتى صدقته أو حاولت…