يواجه العديد من الدول الناشئة تحديا كبيرا فى طريق الاصلاح الاقتصادى وهو جذب رءوس الأموال الأجنبية. مصر مثلا حققت إنجازا كبيرا فى هذا المجال حيث نجحت نجاحا منقطع النظير فى جذب رءوس الاموال الأجنبية فى صورة استثمارات فى أدوات الدين قصيرة الأجل، وأيضا مؤخرا أصبحت أدوات الدين طويلة الأجل جاذبة للاستثمار الأجنبى؛ ولكن مازال لديها تحد وهو زيادة الاستثمارات الأجنبية فى البورصة، والأهم من ذلك جذب المزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر فى مشاريع ومصانع جديدة مع زيادة الاستثمارات الأجنبية فى المشاريع القائمة. كما نعلم، نجحت مصر فى إجراء اصلاحات اقتصادية شديدة الصعوبة أهّلتها لاحتلال مكانة مهمة فى قائمة الاقتصادات الناشئة وهو ما جاء فى جميع الدراسات الصادرة عن بيوت الخبرة وبنوك الاستثمار العالمية، ولكن فى نفس الوقت، قد لا يخلو تقرير من التحذير من صعوبة وأهمية المرحلة القادمة من الإصلاحات وهى إصلاحات هيكلية من شأنها أن تجعل الاقتصاد شديد الجاذبية لجميع أنواع الاستثمارات. والحقيقة أنه كما قلنا سابقا، تحديات مصر لجذب رءوس الأموال الأجنبية ليست حكرا عليها فيتشارك معها الكثير من الدول الناشئة. طبيعة الاجراءات المطلوبة لتحقيق هذا الجذب محل نقاش صاخب ومستمر، لكنى أقول دائما إن لدى «برشامة» فيها جملة واحدة لمن يريد تحقيق ذلك: «اجعل الاقتصاد جاذبا ومشجعا للمستثمر المحلى». ورغم سهولة الجملة وبديهية معناها فتنفيذها صعب جدا؛ لأنه يتطلب العمل على عدة مستويات أخص منها هنا ثلاث منظومات شديدة الأهمية، وهى:
١ــ منظومة إصدار التراخيص: دائما ما أعطى مثالا الفارق بين أن تصبح مدير استثمار مرخصا فى أمريكا مقارنة بأن تنال هذا الترخيص فى مصر. فى أمريكا تحتاج فقط النجاح فى امتحان موضوعى معتمد لتحصل فورا على رخصة الممارسة. وعندما تبدأ العمل يجب الالتزام بالمعايير المطلوبة فى إدارة شئون عملائك وأن تكون جاهزا لمراجعة السلطة الرقابية المختصة لكل العمليات التى أجريتها خلال العام او عدة أعوام سابقة. إذن، فأى شخص ينجح فى الامتحان ويلتزم بالمعايير يستطيع أن يكون مدير استثمار محترفا. بمعنى آخر أى أمريكى لديه الفرصة أن يصبح مديرا للاستثمار. وكل مدير استثمار يروج لعمله ويجذب عملاء جددا مما يزيد من حجم التداول فى الأسواق. أما فى مصر، لكى تحصل على الترخيص، فيشترط أن تكون لديك خبرة عمل سابقة فى أحد بنوك الاستثمار أو فى قسم الاستثمار فى أحد البنوك التجارية، وهذا بالطبع يقلل عددا من لهم الحق فى ممارسة هذه الوظيفة. أما الشرط الثانى فهو توفير رأس مال قدره عشرة ملايين جنيه لتأسيس شركة يكون ٢٥% منها مملوكا لمؤسسة مالية، أى أن إنشاء مؤسسة مالية جديدة مرتبط بمؤسسة مالية موجودة. وهنا تحدث مشكلتان: أولا ربط ترخيص مهنة تحتاج مؤهلات ومهارات إدارة بالملاءة المالية وهى ليست ضرورية لممارسة هذه المهنة. ثانيا حصر دخول السوق على المؤسسات القائمة مما يصعب من دخول منافسين جدد وهذا يحد من اختيارات المستثمرين ويؤثر سلبا على جودة الخدمة المقدمة. الأساس عندنا فى العموم هو أن تعتمد التراخيص على الملاءة المالية. يجب أن يتغير ذلك إذا كنا نريد ان يتعاظم حجم السوق بأن نشجع شركات جديدة مؤهلة بجميع الأحجام لدخول الأسواق للمنافسة على العملاء الجدد وعلى الاستثمارات الجديدة. لماذا؟ لأن المستثمر المحلى أفضل مروج للاستثمار الأجنبى. إذا كان لديه فرصة حقيقية ومنتج جيد سيجذب استثمارا أجنبيا.
٢ــ المنظومة الضريبية: المنظومة الضريبية السلسة العادلة معناها أن تخرج شركات الاقتصاد الموازى من تحت السلم إلى النور. معناها أيضا أن يقضى المستثمرون أوقاتا أكثر فى ادارة أعمالهم بدلا من الجرى وراء الروتين. نشرت بلومبرج فى نوفمبر الماضى مقالة كاشفة عن الكود الضريبى فى البرازيل. قام محامى ضرائب هناك بصرف حوالى ٢٥٠ ألف دولار أمريكى لتجميع الكود الضريبى البرازيلى فى مجلد فوجد الآتى: وزنه سبعة أطنان ونصف أى أكثر ثقلا من الفيل الأفريقى، وأطول من لاعب كرة سلة فى دورى المحترفين الأمريكى. الشركات البرازيلية تقضى أكثر من ٢٠٠٠ ساعة سنويا فى تحضير ملفاتها الضريبية إذ إنهم ملتزمون بأكثر من ٤٠ ألف صفحة من القواعد. يحضرنى هنا الفنان محمد صبحى فى شخصية الإنسان الآلى فى مسرحية «الهمجى» عندما رأى شيئا لم يفهمه وأخذ يحرك يديه بعنف و يقول «ما هذا؟». هل كسبت البرازيل فعلا من هذه التعقيدات؟ هل ضاع عليها دخل أضعاف ما حصلت عليه بسببها؟ الشركة الأجنبية التى تقبل العمل فى مثل هذا المناخ هى بالتأكيد شركة انتهازية تعلم انها ستخرج بمكاسب هائلة تعوض المخاطر والوقت والجهد والمال الذين يضيعون فى استيفاء المتطلبات الحكومية والضريبية. لذلك يجب أن يكون هناك توازن بين صعوبة وشدة إدارة المنظومة الضريبية وبين مدى تماشيها مع الرؤية العامة للسوق وكيفية تشجيع زيادة الاستثمارات فيها. وأول المستفيدين من هذه التحسينات يجب أن يكون المستثمر المحلى. لماذا؟ مرة أخرى، لأن المستثمر المحلى أفضل مروج للاستثمار الأجنبى. إذا كان لديه فرصة حقيقية ومنتج جيد سيجذب استثمار أجنبى.
٣ــ منظومة الخدمات الحكومية: وهى النظام الحاكم للعلاقة بين المستثمر وأجهزة الدولة وهى تبدأ منذ لحظة الاستفسار عن شروط تأسيس شركة وتستمر من خلال التعامل مع الأجهزة الحكومية المختلفة بشكل شبه يومى. يجب أن تتحول المنظومة الحكومية فى البلاد الناشئة إلى منظومة خدمية فى المقام الأول ويكون لها مؤشرات لقياس الأداء مثل أية شركة أو مؤسسة فى العالم. فهذه المؤشرات هى التى يسير العالم بها ويسمونها Key Performance Indicators وتعرف باختصار بلفظ KPIs. تخيل مثلا إدارة لتأسيس الشركات هدفها انشاء ٢٠ ألف شركة جديدة شهريا. فعندئذ سيحرص الموظف على مساعدة المستثمرين فى استكمال وإنهاء الإجراءات لأن ذلك سيساعده بالتالى فى تحقيق هدف الإدارة الذى يعتمد عليه فى الحصول على علاوته الشهرية أو السنوية. فى سويسرا عندما تذهب لمكتب حكومى وتكتشف أنك كنت تحتاج لاستكمال أوراق من جهة أخرى فلا تستغرب اذا اخرج الموظف الورقة التى تحتاجها وساعدك على ملئها بطريقة صحيحة، ثم أعطاك ورقة مطبوعا عليها اسم الجهة التى يجب أن تعتمدها وكذلك عنوانها ومواعيدها بل وخريطة للوصول إليها بسهولة. لماذا يفعل ذلك؟ ولماذا يخدمونك؟ لأن المستثمر المحلى أفضل مروج للاستثمار الأجنبى.اذا كان لديه فرصة حقيقية ومنتج جيد سيجذب استثمارا أجنبيا.
قصدت تكرار الجملة نفسها مرارا لأنها الوصفة السحرية وماعداها سيعطى نتائج مؤقتة لا تستمر. المستثمر المحلى هو الأساس والاستمرارية هى كلمة السر التى يجب أن تبحث عنها الدول الناشئة. والاستمرارية هنا معناها أن تكون الحلول والاجراءات مستدامة وليست مؤقتة. أثبتت الأبحاث مثلا أن «الإجازات الضريبية» Tax breaks والتى تعطى تخفيضات ضريبية مؤقتة من أسوأ طرق جذب الاستثمارات المستدامة لعدة أسباب منها مثلا أن الشركات التى تأتى بسببها تهدف فقط لتعظيم الاستفادة من الإجازة الضريبية؛ فبدلا من بناء مصنع فستقوم بالاستئجار. وستؤجل بناء المصنع لما بعد انتهاء الإجازة الضريبية لتستفيد من قيد مصاريف إنشائه عند احتساب أرباحها السنوية. إذًا فالحلول المستدامة هى الحل وخلق مناخ جاذب للاستثمار المحلى قبل الأجنبى هو الطريق. ذكرنا ثلاثة محاور أراها من أهم ما تحتاجه الدول الناشئة ولكن هناك احتياجات ومحاور أخرى كثيرة وسردها يحتاج كتابا قد يكون وزنه أيضا أثقل من الفيل الإفريقى.