لقد كان الإرث الذى واجهته «بلدان الربيع العربى» بعد إسقاط النظم الاستبدادية والفاسدة إرثا ثقيلا يتمثل فى مجموعة من المشاكل الاقتصادية المزمنة: العجز المتفاقم فى موازنة الدولة، معدلات البطالة المرتفعة ولا سيما فى صفوف الشباب، وأزمة هيكلية فى ميزان المدفوعات وارتفاع معدلات الفقر، وذلك رغم التغنى بارتفاع معدلات النمو للناتج المحلى الإجمالى، حيث بلغت معدلات النمو للناتج المحلى الإجمالى نحو 7% فى حالة مصر وتم تقديم اقتصاد تونس كنموذج لاقتصاديات البلدان النامية الناهضة.
ويعود جذر المشكلة الاقتصادية فى تلك البلدان إلى قضيتين رئيستين:
سوء توزيع الاستثمارات وتركزها فى قطاع العقارات والسياحة والتمويل.
سوء توزيع الدخول مما أدى إلى ضعف القدرة الشرائية للمواطنين وإصابة تلك البلدان بما سمى «الركود التضخمى»، حيث يتعايش الركود مع التضخم جنبا إلى جنب.
وقد شهدت بلدان الربيع العربى تباطؤ اقتصاديا وانخفاضا فى مستويات التشغيل وظهور الكثير من الطاقات العاطلة خلال الفترة 2011/2012. وقد أشارت دراسات مؤتمر الأمم المتحدة بالمغرب فى فبراير 2013 إلى أن معدلات البطالة وصلت إلى مستويات حرجة، حيث بلغت فى مصر 12.6%، وفى تونس 17.6% والمغرب 8.1%، ووصلت إلى 26% فى ليبيا. رغم أن هذه البيانات لا تعبر عن معدلات البطالة الحقيقية فى تلك المجتمعات، ناهيك عن معدلات البطالة المرتفعة فى صفوف الشباب المتعلم.
ومع طول فترات الانتظار للخريجين العاطلين يشير الاقتصادى الأمريكى المرموق بول كروجمان «نشر بجريدة الشروق بتاريخ 27 أبريل الماضى» إلى أن المسألة الرئيسية تصبح «ما اذا كان هؤلاء المتعطلون عن العمل لمدد طويلة سوف ينظر إليهم فى نهاية الأمر باعتبارهم غير صالحين للعمل أو كسلع معطوبة لن يشتريها أحد. إذ سيكون الاختيار دوما لصالح الذين سبق لهم العمل».
من ناحية أخرى، أشار الدكتور حازم الببلاوى (الاهرام 23 ابريل 2013) إلى المعضلة التى تواجه اقتصادات تلك البلدان، حيث يوجد تعارض بين السياسات التقشفية اللازمة لتخفيض عجز الموازنة من ناحية وبين السياسات التوسعية اللازمة لحل مشكلة البطالة وخلق فرص عمل انتاجية لاستيعاب البطالة بشكل تدريجى من ناحية أخرى. وتلك حقا معضلة، إذ إن علاج العجز لا يكون بترشيد الانفاق فقط وإنما بزيادة الإيرادات العامة وفى مقدمتها الضرائب، ولا سيما الضرائب المباشرة. ونظرا لضعف الانفاق الاستثمارى فى موازنات دول الربيع العربى فإن الحل فى رأى البعض هو تشجيع القطاع الخاص على مزيد من الاستثمار والعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيعها. وهنا تبرز معضلة أخرى، إذ إن الأخذ بنظام الضرائب التصاعدية الذى يحقق قدرا من العدالة فى توزيع الدخول استجابة لمطالب الثورات العربية لا يقدم حافزا للمستثمرين المحليين والأجانب للاستثمار على نطاق واسع إلا فى إطار ورؤية استراتيجية واضحة.
●●●
وقد انتقد البرلمان الأوروبى أخيرا (جلسة 27 ابريل 2013) المبالغة فى «سياسات التقشف» فى أوروبا، وأكد رئيس البرلمان الأوروبى أن أى اقتصاد وطنى لا يستعيد عافيته بمجرد خفض الموازنات بل من خلال استثمارات استراتيجية.
ولذا يجب أن يعمل راسم السياسة الاقتصادية على تحقيق قدر كبير من الموازنات والمفاضلات لكى يتم حل تلك المعضلات دون تحميل الفقراء والفئات محدودة الدخل أعباء السياسات التقشفية فى مجال اصلاح منظومة دعم الغذاء والطاقة والحفاظ على الحد الأدنى للإنفاق الاستثمارى الحكومى «ذى الطابع الاجتماعى» فى مجالات الصحة والتعليم والاسكان والمواصلات مع تحفيز القطاع الخاص للقيام باستثمارات تنموية. وهذا بدوره يقتضى الأخذ بقدر من التوجيه الاقتصادى أو نوع من التخطيط التأشيرى لضبط حركة المتغيرات الاقتصادية الكلية من استهلاك واستثمارات وتوظف مع توليد قدر كافٍ من النقد الأجنبى لتمويل الواردات السلعية والاستثمارية.
●●●
ولذا لابد أن تأتى الثورات العربية بعقد اجتماعى جديد يقرر حقوقا اقتصادية واجتماعية جديدة وليس مجرد حريات سياسية، والانخراط فى مشروع للتنمية يعطى للجماهير الأمل فى الرقى والتحديث. وهذا يتطلب بدوره تعديل فى ميزان القوى السياسية عن طريق انتخابات نزيهة كما حدث فى بلدان أمريكا اللاتينية (البرازيل، تشيلى، الارجنتين، فنزويلا) أو من خلال انتفاضة شعبية جديدة. «وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا».
أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة