جلس ذاك الرئيس فى مشفاه الأوروبى فى غرفة تبعث التفاصيل فيها على أنها مميزة رغم أنها واحدة مثل بقية غرف ذاك المشفى الأوروبى.. خرج الطبيب ليردد لو كان هذا الحاكم عادلا وغير فاسد لقام بتحسين الظروف الصحية فى بلده ولما احتاج لأن يسافر لساعات طويلة لتلقى العلاج.. لا زالت تلك الحكاية التى تدوولت على أنها خاصة برئيس عربى إنما هى قيلت على العديد منهم وليس لواحد فقط.. جاءت مثل هذه العبارة لتذكرنا بحقيقة أشد مرارة من الواقع العربى اليوم شديد التمزق وكثير الدم والتعصب الاحمق.
سأل احدهم من تلك المدينة التى يرحل إليها العرب من مدن النفط وغيرها كثيرا «لماذا يأتى طلابكم للدراسة هنا ألا توجد لديكم جامعات محترمة؟» من شدة بساطة وإحراج السؤال راح الكثيرون يرددون عبارات تبدو فى جلها «كلايشيهات» وأكثرها لا يبعد عن التبرير خجلا أكثر منه قناعة. بعضهم قال له إن ديننا يدعونا لطلب العلم ولو فى الصين وآخر قال له إن كل طلاب العالم يبحثون وينتقلون من الدول المتقدمة للدراسة على سبيل المثال فى الولايات المتحدة هل يعنى ذلك أن أوروبا لا تملك جامعات لها قيمة؟
***
بقى النقاش حبيس الأسئلة الصعبة والأجوبة الخجولة حتى كان على أحدهم أن يوقف كل ما أسماه بالعبث وراح يردد حقا حقا فنحن نعيش فى مدن تملك أعلى ناطحة سحاب وأكبر مطار وربما ميناء والآن أكبر وأكثر جامعات مستوردة كما كل البضائع التى ترص على أرفف السوبرماركت المزدحمة بكل ما لذ وطاب وكله مستورد من أبعد قرية فى الفلبين والصين حتى الكرز القادم من تشيلى فى اقصى امريكا الجنوبية، الا اننا لا نزال نبعث سنويا بآلاف الطلاب إلى كل جامعات الكون من استراليا حتى أمريكا ونرسل بمرضانا للعلاج فى مستشفيات كثرت حتى أصبحت القوائم تجهز لكل مريض ليختار أين يرحل بحثا عن العلاج الذى شح فى بلد الثراء الفاحش والتكنولوجيا المستوردة بكل ما جد واستحدث منها. وخصصت بعض تلك الدول الصغيرة سكانا وحجما مخصصات لعلاج المواطنين فى كثير من المستشفيات حتى قيل أخيرا إن البعض يعالج حتى فى مستشفى اسوتا فى تل ابيب بإسرائيل !!!
وأصبح حلم المريض الفقير أن يستدين ليرحل بحثا عن العلاج أو يبقى أسير فقره بكل أبعاد ذاك الفقر الذى يبدو أكثر شدة وقسوة والقوم يرمون بما لذ وطاب مع نهاية يوم صيامهم لتتلقفه المزبلة والبطون الخاوية لا تبعد كثيرا فى نفس الشهر الفضيل!!!!
كيف لبلد يعرف ان يستورد كل شىء وأى شىء حتى الجامعات تفنن البعض فى استيراد بعضها ولا تزال جحافل الطلاب تولى وجهها مع نهاية كل عام دراسى أو قبل نهايته بحثا عن جامعة لتستقبل طموحهم الذى لا تسعه سماء بلدهم المعطرة بالعود والعنبر. بقيت الجامعات المستوردة بمبانيها الفخمة ككل شىء بهذه الدول بقيت مقتصرة على كثير من الفتيات وبعض من الشباب الذى ينتظر الوظيفة الحكومية المضمونة فى الكثير من الأحيان عن طريق مرض منتشر فى ربوع هذه الدول وغيرها ألا وهو «الواسطة» أو قل لى من تعرف أقول لك من أنت!!! أو هى لفقراء هذه الدول نعم هم الآخرون ضحايا دكاكين العلم والطبابة !!
***
يقولون فى التنمية ابحث عن مؤشرات الصحة والتعليم لا عن ميزانيات التسلح التى بدأت فى قضم الجزء الأكبر من ميزانيات تلك الدول وهى التى كان باستطاعتها بمداخيلها الواسعة أن تخلق أفضل مدارس وجامعات ومستشفيات بأحدث المعدات وأفضل الأطباء والمتخصصين. فبدلا عن ذلك تحول التعليم والمرض إلى وسائل ربحية كما كل شىء هناك فكثرت المدارس الخاصة التى تخرج هى الأخرى أطفالا وشبابا وشابات لا يتقنون إلا التسطيح من اللغة الإنجليزية ولا يعرفون أن يملوا استمارة الوصول فى مطار أى بلد عربى باللغة العربية أيضا !! وكثرت المستشفيات التجارية الخاصة حتى أصبح المريض حقل تجارب لأرخص الأطباء من دول العالم الفقيرة كما كل العمالة الوافدة فى تلك الدول الاعتماد الأول والأخير على العمالة الرخيصة وليس على العمالة المتخصصة حتى تزداد نسبة الربح على حساب أجيال قادمة ستكون ابعد ما تكون عن أوطانها ولغتها وأجيال من المرضى الباحثين عن أفضل علاج بما ما هو مستطاع فيما لا تزال مستشفيات العالم تفتح ابوابها وتعلن عن استعدادها لاستقبال الاثرياء من العرب !!
ستبقى هذه الدول بنصائح العمالة الوافدة من الخبراء العرب والغربيين والخبراء المحليين «المستغربون» مرتديوا عباءات التحضر المصطنع والمتحدثون باللغة الإنجليزية لأنه فى نظرتهم الضيقة أن الحضارة و«التمدن» هى فى الابتعاد عن العربية بكل ابعادها، ستبقى سجينة قلة التخطيط والتخبط الزائد وعشق الدخول فى موسوعة جنيس تحت عناوين الأكبر والأعلى والأوسع والأعمق بدلا من دخول تقارير التنمية بالنسبة للتعليم والصحة والمواطنة الحقة والمساواة وفتح الباب للحريات وخاصة حرية التعبير المغضوب عليها دوما!!!