«رَبْع الرُزّ» مهمشون فى زمن العشرينيات! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«رَبْع الرُزّ» مهمشون فى زمن العشرينيات!

نشر فى : السبت 13 يوليه 2024 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 13 يوليه 2024 - 8:50 م

تنبئ هذه الرواية عن كاتبةٍ واعدة للغاية، ولولا بعض الملاحظات على البناء، وعلى تكنيك السرد، لكان للرواية شأن أهم وأكبر، ذلك أنها تكتشف أحد مجتمعات المهمشين فى القاهرة فى فترة العشرينيات من القرن العشرين، وتقدم نماذج إنسانية جيدة، وتعيد بعث المكان والتفاصيل والأحوال، وتمتلك أيضًا جرأة فى معالجة تلك النماذج، التى تدور فى حلقة مفرغة، وتعيش أسيرة ظروفها واختياراتها المحدودة والتى تبدو مثقلة بماضيها، وبلعنةٍ متوارثة، لا سبيل لكسرها، أو التخلص منها.
الرواية بعنوان «رَبْع الرُزّ» لشيماء غنيم، وصدرت عن دار العين، وهى الرواية الثانية للكاتبة، بعد رواية غير منشورة بعنوان «أبواب نجيّة»، وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة خيرى شلبى فى العام 2022.
والكاتبة من المهتمات بسيرة القاهرة، وبحكاياتها القديمة، وبالمنسى أو المسكوت عنه من تاريخها العجيب، يتضح ذلك فى الإهداء، ولكنه يتجلّى أكثر فى فصول الرواية، وفى إعادة بناء أماكنها، واستعادتها من خلال الشوارع، وطريقة الكلام، وتفاصيل الحياة اليومية، ومن السبتية والقللى وسوق العصر، إلى الحسين والباب الأخضر والمستشفى القبطى وقصر العينى..
نكتشف عوالم غريبة، ويصبح رَبْع الرُز، الذى يتكدس فيه أكثر من ألفى شخص خلف باب واحد، وفى طابقين، ليس مجرد مسرح أو ديكور للأحداث، بل هو بطل من أبطال الرواية، وهو وشخصياتها فى علاقة قدرية، منذ البداية وحتى النهاية.
هذا المكان البائس الذى تتراكم فى جنباته القمامة، وتمرح فيه الفئران، يحتضن أسرار شخصيات بائسة مهمشة، تعيش فى قلب العاصمة، ولكنها أيضًا فى عزلة وحصار دائمين، ولا يقدم المكان البائس لساكنيه إلا بمأساة، تختمر عناصرها على مهل، ولكننا نعلم أنها قادمة بدون محالة.
تبدأ الرواية بيوم وفاة سعد زغلول، الذى اعتبره شوقى فى قصيدة شهيرة «يوم الهول»، وسكان الرَبع اعتبروه أيضًا كذلك، فسعد زعيم الأمة، والباشا الذى يحتشد الشعب خلفه، ولكن الرَبع يشهد فى نفس اليوم هولًا آخر، عندما تقوم الشحّاذة ستيتة، بإحراق نفسها، فينقلونها إلى المستشفى، وستكون تلك الحادثة وسيلة التعريف بالشخصيات الأخرى، التى تتشابك مصائرها بشكل غريب.
بداية جيدة وذكية، لأنها كشفت مأساة خاصة تنافس مأساة عامة، ولأنها فتحت باب الرَبْع على حدث قومى، ثم أغلقته من جديد على عزلته ومعاركه الخاصة، وستكون أحداث الرواية خلال أربعين يومًا، حيث تنتهى بذكرى أربعين سعد، ولكنها تنتهى أيضًا بمأساة دامية، فيعود الرَبْع وكوارثه ليحدد الختام، كما حدّد البداية.
هى إذن حكاية موت زعيم الوفد، حزب أصحاب الجلاليب الزرقاء، وحكاية المهمشين، الذين ظلت أوضاعهم على حالها بعد ثورة 1919، ولأنه لا يمكن سرد حكاية كل سكان الرَبْع، فإن شيماء تختار ستة نماذج تنعكس عليهم اللعنة، وتقودهم الأحداث إلى كارثة.
ثلاث نساء هن: نرجس العاهرة المحترفة، الهاربة من زوجها الصعيدى المفروض عليها، وزهرة الهاربة أيضًا من أسرة فرضت عليها زوجًا عجوزًا، وكانت أيضًا تحترف البغاء، ولكنها تزوجت، وسكنت فى الرَبع، وستيتة، الشحاذة المحترفة، والتى راحت ضحية قلبها، ولدينا ثلاثة رجال هم: فوزى الفتوة، وسالم صانع المشنّات، زوج زهرة، وأحمد أفندى، وهو نموذج غريب وفريد، إذ إنه متعلم، ولكنه عاش حياة مريبة، حيث عمل ناضورجيًا لتجار الكوكايين فى طفولته، ثم صار شريكًا فى توريط الفتيات فى البغاء، بإمضاء أوراق تجعلهم تحت السيطرة.
نماذج من قاع المدينة، تمتد بينهم علاقات قديمة وحديثة، على خلفية مجتمع خرج توّا من ثورة ضخمة، ووسط ظروف فقر قاسية، وسوق يباع فيه كل شىء، خاصة أعراض الفتيات، وإبراهيم الغربى، الشخصية الحقيقية الشهيرة، التى ماتت فى السجن فى العام 1926، هو أحد أبطال الظل فى الرواية، لأنه ملك البغاء، ولأنه سيغير مصير زهرة على وجه التحديد.
ينطوى الرَبع على أسرار، سرعان ما تتكشف، والشخصيات تخرج من المكان، لتعود إليه، فلا فرار ولا هروب، وبينما لا تجد النساء من سبيل سوى الهرب، واستغلال أجسادهن، أو الشحاذة، فإن خيارات الرجال مرتبطة فقط بالفتونة أو عمل المشنّات أو تسهيل البغاء، أما حكايات الحب فيتم إجهاضها بقسوة، والهامش سيظل هامشًا، بل ويبدو أن انتزاع الرَبع من مالكه التركى القديم، الذى أراده وقفًا، فسكنه الفقراء، قد أفسد المعادلة الطبقية، فحقت اللعنة على الساكنين.
هذا هو الإطار العام لحكاية مصرية منسية، وجدتها شيماء تليق بزمنها، ومكانها وشخصياتها، جعلت الثورة والأعياد الملكية كخلفية، وركزت على سكان الحجرات والحواصل، وإن ظلت هناك مشكلات واضحة، أولها عدم ضبط لعبة الأسرار بشكل محكم، وبدلًا من تضفير ذلك مع تقدم الحبكة وأحداثها، كنا نتوقف أكثر من مرة، ونستغرق فى العودة إلى ماضى شخصية ما، مع اللجوء إلى ذكريات الشخصيات بصورة تقريرية مباشرة، وقد أدى كل ذلك إلى تشوش السرد، وارتباك الخطوط، وتباين أحجام الفصول وإيقاعها.
بدا لى أيضًا أن الجمع بين لغة رصينة، فيها الكثير من الكليشيهات، ولغة العشرينيات بكل مصطلحاتها، لم يكن موفقًا، فالأفضل بالتأكيد أن يتبنى السرد عمومًا بساطة لغة تلك الفترة، مثلما رأينا فى حوارات، فيها الكثير من الحيوية، كما أن استخدام أسلوب الاستفهام بشكل مفرط، أعادنا إلى طريقة سرد مصطنعة، لا أعتقد أنها تناسب تلك الشخصيات الحية.
عندى كذلك ملاحظة على الحدث المحورى بعودة زهرة إلى الرّبع رغم الأخطار المحدقة، إنه حدث غريب لا يتسق مع ذكائها وحذرها، وكان يمكن أن تجد وسيلة أخرى غير مباشرة، للانتقام ممن أخرجوها من الربع.
أعتقد أنها مشكلات تتعلّق بـ «خبرة السرد وحرفته»، ولكن شيماء غنيم تمتلك موهبة حقيقية، وبذلت جهدًا كبيرًا فى دراسة شخصياتها، وزمانهم ومكانهم، كما أنها امتلكت فكرتها، فلم تفلتها: هذا «الرّبع» هو حكاية الغلابة التى تاهت فى ظل الأحداث الكبرى، وهذه المأساة هى قدر الفقراء والمهمشين، فى كل زمان.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات