المبدع ومواصلة الاتجاه - صحافة عربية - بوابة الشروق
الإثنين 14 أكتوبر 2024 6:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المبدع ومواصلة الاتجاه

نشر فى : الأحد 13 أكتوبر 2024 - 6:20 م | آخر تحديث : الأحد 13 أكتوبر 2024 - 8:53 م

دائمًا وأبدًا نتساءل عن مكمنات الإبداع، وسبلها، ولغز أسرارها المحير. ولذا نحن دائما فى حالة بحث دائم عن مفاصل هذا الفن وعن طرائقه وخاصة للمبدعين الجدد والباحثين عن سبيل الدهشة والمتعة فى الحرفية الفنية بكل صنوفها ومدارجها.

ولعل ما يسمى بمواصلة الاتجاه من أهم عوامل الإبداع النقية، ومن أهم أدوات الكتاب والمبدع بشكل عام. ومواصلة الاتجاه هى المحافظة على الاتجاه الذى يضمن قدرة استمرار الفرد على التفكير فى المشكلة لفترة زمنية طويلة حتى يتم الوصول إلى حلول جديدة.

ولذلك فقد تطرأ على ذهن المبدع فكرة ما، ثم تسيطر على تفكيره لفترة زمنية قد تكون طويلة الأمد، وقد تكون قصيرة متفجرة، وقد تخفت فى مكمن التاريخ الذهنى، لتنطلق فى وقت مفاجئ. ولكن لها مدارات يجب أن تكتسب قوتها منها لكى يكون العمل الإبداعى كامل الجوانب ولكى تكون رسالة العمل جيدة ومفيدة.

فمن أشكال مواصلة الاتجاه وعلاقتها بالعمل الإبداعى هى «مواصلة اتجاه التفكير الإبداعى، المواصلة الزمنية، والمواصلة التاريخية: المحافظة على استمرار التتابع الزمنى والتاريخى فى وصف الحدث، ملتزما بخط سير متتابع متدرج للفترة الزمنية التى يحدث وفقها الحدث».

إنها قدرة الفرد على التركيز فى مسارات العمل المتعددة والمتشعبة، إلا أنها جميعها يلزم أن تتخذ روابط متماسة ومتقاطعة مع المشكلة ذاتها للوصول إلى الحل فى نهاية المطاف.

إن مسألة مواصلة الاتجاه هى من أصعب المهام لدى الكاتب، وهى التى تعمل على التشعب والتلاقى فى الوقت ذاته، وهى من تحافظ على ترابط الفكرة برغم ما يعتمل العمل من أفق انتظار ومن ترقب يأخذ بتلابيب المتلقى فى شد وجذب، مما يؤدى إلى ربط المتلقى بالعمل تاركا العديد من المفاجآت التى لا يتوقعها ذلك المتلقى الشغوف إن صح العمل ذاته؛ فكسر التوقع هو لعبة الكاتب الحرفى الماهر.

لقد ذهب نجيب محفوظ إلى الإسكندرية وسكن فى (بانسيون) يسمى ميرامار وانشغل بشخصية زهرة التى ظلت كامنة فى ذهنه لمدة خمسين عاما حتى تخرج فى روايته الشهيرة ميرامار. فكيف أنتجها وكيف وظفها لخدمة أفكار يريد طرحها لمعالجة الواقع الذى هو مقصد العمل الإبداعى برمته؟ يقول عالم النفس الأستاذ الدكتور مصرى حنورة فى كتابه الخلق الفنى فى هذا الشأن وهو مواصلة الاتجاه بطبيعة الحال: «إن مواصلة الاتجاه وجدناها لدى نجيب محفوظ، والتى أمكن الكشف عنها لدى العالم أينشتين، وموجودة أيضا لدى من لا يمكن تصور وجودها لديه»، تلك العملية النفسية العميقة كلها تتم من خلال محاولات للتجويد، وإحساس متنقل بين الكل والجزء، كل ذلك يتم دون ألا يبتعد عن موضوعه الرئيس.

يقول سالف الذكر فى هذا الصدد: «بالرغم مما هو معروف من أن كثيرا من القصص تعتمد على أحداث خيالية ليس لها نصيب من الواقع، ولكن براعة الفنان تكمن فى قدرته على مواصلة التاريخ الذى بدأ به، وذلك جانب آخر وهو القدرة على المواصلة البدنية، وهناك كثير من الكتاب يستشيرون الأطباء قبل البداية فى العمل لكى يتأكدوا من قدرتهم على مواصلة العمل، وإلا لم يبدأوا».

إنه عمل شاق ومرهق قال عنه الفيلسوف لايوس إجرى إنه أشد ألما من مضغ الزلط. إنها صعوبة الحفاظ على وجهة ذهنية يحملها الإنسان ويمضى بها عبر عدد من السدود والعقبات.

إن كل ما يهمنا هنا هو ذلك الترابط بين الجزء والكل، بين الحدث الرئيس والأحداث الفرعية، بين الرسالة فى نهاية العمل ومجمل عناصر العمل نفسه، وهذا ما يخلق عالما مدهشا وممتعا.

ولعل ذلك لا ولن يتم إلا من خلال المخزون التاريخى لدى المبدع نفسه، فكلما تزاحم تاريخ المبدع نفسه، فيما نسميه بالصندوق الأسود الذى لا يفتح طواعية بل يتحلل فيه كل تاريخ الفرد ثم يخرج صانعا عالما ينم عن ثراء المتخيلة نفسها وهو ما يميز مبدعا عن الآخر.. فالفنان لا يحمل صندوقا يفتحه فيجد به ألوانا مختلفة من الأفكار أو الموضوعات يتخذ منها ما يشاء لكى يبدأ على الفور فى العمل!

إن مواصلة الاتجاه لها قدر كبير من الأهمية فى بناء القصص والروايات والمسرحيات، حيث إنه من المطلوب المحافظة على جانب الحبكة والاستمرار بالفكرة الأولى للمسرحية والأفكار الجزئية، متسقة فى وحدة وتكامل مع باقى عناصر القصة أو المسرحية، وأى إخلال بهذا النسق يدعو على الفور إلى بروز الخلل. فعملية الخلق الفنى ليست مسألة مراحل تتلو مرحلة منها الأخرى، بل هى تفاعل بين عدد من العناصر، وهذا التفاعل لا يتم فحسب داخل نفس المبدع، ولكن داخل ذاته، وفيما بينه وبين الآخرين، وفيما بينه وبين عناصر العمل الفنى، والتفاعل محكوم مدفوع إلى غاية ومحكوم بإطار، فالغاية فهى نتاج عمل فنى، وأما الإطار فهو مجموعة القيم التى يحملها المبدع فى نفسه، ويلتزم بها فيما يفعل وفيما لا يفعل، وهو أيضا تلك المكتسبات التى حصل عليها المبدع خلال تاريخه الطويل.

ولذلك فنحن دائما حريصون على بذل ما اقتنيناه من خبرات عبر علوم نفسية ومنهجية، لكى يتمكن أبناؤنا من الإمساك بتلابيب العمل الفنى وخاصة فى هذه الطفرة الرائجة فى بلادنا ومن زخم المحاولات التى هبطت بين أيدينا من جيل شغوف بالكتابة وبالإبداع يحتاج إلى كثير من الدعم والتوجيه.

 ملحة عبدالله

جريدة الرياض السعودية

 

التعليقات