عند منعطف صغير تتفتح المدينة كزهرة شديدة النقاء.. عند تلك الزاوية يبدو هذا الجزء المتحلق حول مقام الشيخ محيى الدين بن عربى وكأنه خارج من كتب التاريخ ليس البعيد جدا بل حتى ذاك الذى كان ما قبل بحور الدم!
تسير بخطى بطيئة تريد تخزين المشاهد فى أكثر من مجرد صورة فوتوغرافية، تخشى أن تضيع تفصيلة هنا أو هناك رغم أن تلك الرائعة قد وضعت تلك التفاصيل فى جزء من زقاقياتها الدمشقية.. فاضت سعاد جروس فى وصفها منمنمات الصالحية، حيث يرقد ابن عربى فى سلام وفى رفقة لا تتركه بل لاتزال تتشفع به وتطلب منه أن يقوم بتلك المعجزات ربما أو يفك ضيق أو كرب أو مرض.
تواصل المسير صعودا، حيث سفح الجبل بين الدكاكين الحاملة لكل ما لذ وطاب وبينهما الكثير من الاحتياجات والكماليات وألعاب أطفال وملابس عتيقة وأخرى جديدة.. هنا كل شىء ينادى عليه من حبة «البندورة» أى الطماطم حتى أحذية الأطفال وغيرها.. محال صغيرة متراصة ليس بينها أى رابط أو تخطيط فتتداخل محال الأكل مع المتاجر المكتظة بلعب الأطفال.
الطريق الحجرى كما كان منذ مئات السنين وفى لحظة من التأمل تتصور تلك البغلة البيضاء تسير متراخية عارفة طريقها حتى تصل إلى الضريح والجامع.. تستفيق من أحلام اليقظة أو الاسترخاء فى الحلم، تستفيق على أصوات الباعة التى تختلط بأصوات الجوامع الداعية لصلاة الظهر.. يهرع الكثيرون تاركين لدكاكينهم فى رعاية أما أطفالهم أو آخرين يتناوبون معهم.. يهرول الجميع فى ذاك الطريق المتعرج نحو الأعلى وكأنهم فى شوق لصلاة فى حضنه ودفئ مقامه.. تخف حركة الشوارع بعض الشىء وتتساقط أشعة الشمس الدافئة مع بداية فصل الربيع الذى لا يضاهيه جمال فى أى مدينة أخرى كهذه المدينة الأكثر جمالا وتألقا.
رغم التعب! تواصل المسيرة بين الكثير من البيوت العتيقة التى لم يمسها بعد هوس العمارات الشاهقة رغم أن الزحف قد بدأ على حواف المنطقة ومداخلها.. تبقى الصالحية هادئة إلا من أصوات الخشوع القادمة من الجوامع المحلقة حولها وأولها جامع مقام ابن عربى. وهى، ــ أى الصالحية ــ كما تشير تلك اللوحة على الحائط فى مدخلها أسست من قبل آل قدامة وهم أبناء فلسطين هاجروا إلى دمشق خلال الحروب الصليبية فى 551 وأسسوا الصالحية فى عهد السلطان نور الدين الشهيد.
***
كل تفصيلة بهذه المنطقة بحاجة إلى كتاب حول تاريخها وأسماء وشخصيات كانت هنا حتى البشر الواقفون أو الجالسون هنا وهناك وعند ذاك المطعم الصغير المتخصص فى الفول المعتق المغمس بعبق التاريخ ورائحة المكان..
عند كل حجر فى الأرض أو جدران المكان يبدو أن هناك أثر لحكاية أو أسطورة ما.. تتصور انه لو نطق الحجر هنا ما الذى كان سيقوله للقادم اليوم ليكون فى حضن ابن عربى.. ذاك المولع به.. ذاك الذى كان يتصور أنه يعرفه جدا وأنه قرأ فى كتبه وما كتب عنه كل تفاصيل الأساطير والحكايات المؤرخة.. لا يمكن الا أن تأخذك الدهشة لحضور التاريخ هنا وتداخلها مع الأسطورة حتى يبدو فصلهما عن بعض أصعب من محاولاتك المستمرة للفلتان من الحلم والعودة إلى الحاضر..
وما أنت فى وسط هذا الدفء حتى تتفاجأ بأن الشارع المتعرج حول البيوت العتيقة وعند خاصرة نهر يزيد المحاذى للجزء الخلفى من جامع الشيخ محيى الدين بن عربى، قد اكتظ بالوجوه والأجساد حتى تلاصقه بعض الشىء مع البقاء على المسافة الكافية لخصوصية الجسد هنا وهناك واحترام عادات وتقاليد هذه المنطقة العريقة.. نساء وأطفال وشيوخ كلهم إما باعة أو جاءوا لشراء غرض هنا أو هناك فيما أصبح الجامع جزءا لا يتجزأ من تفاصيل أيامهم..
ولا يمكن وأنت هناك ألا تستوقفك التكية السليمية التى تطعم أكثر من 1500 عائلة كل خميس بالهريسة الساخنة المليئة باللحم والقمح لتشكل وجبة كاملة لفقراء يأتون من مناطق عدة من أجل لقمة دافئة فى ليالى السنوات الخمس التى ظن البعض أنها سرقت كثيرا من إنسانية ومحبة ودفء هذا الشعب..
يبقى ابن عربى شديد الغموض ولذلك اختلف حوله الكثير من العلماء والمفكرين، كما تقول سعاد جروس فى كتابها «زقاقيات دمشقية» المتعمق فى فكر ابن عربى كالسائر فى طريق وعر، وذلك لأسباب تعود إلى منطلقات ترتبط بفكر ابن عربى نفسه، وأخرى خارجية لها صلة بكيفية التعاطى مع أفكاره ولغته الغامضة التى لاتزال تلقى صدودا فى أروقة الفكر الإسلامى، ومما يؤكد ذلك صدور 138 فتوى ضده عن فقهاء ومتكلمين وحكماء.
تبدأ الشمس فى الاختفاء خلف البيوت العتيقة فى استعدادها اليومى للرحيل واسدال الظلمة على المكان.. تخف الحركة بعض الشىء والأصوات ويبقى هو ينير مكانه وكثير من العقول بنوره حتى وهو فى قبره.