ناداني البحر - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 8:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ناداني البحر

نشر فى : الأحد 14 مايو 2023 - 9:30 م | آخر تحديث : الأحد 14 مايو 2023 - 9:30 م
أولئك الذين ولدوا وكبروا بالقرب من الماء لابد وأن يفهموا مناداة البحر لهم، وهم وحدهم قادرون على معرفة كم هو أساس فى حياتهم اليومية كالدواء والماء والغذاء والصلاة أيضا، ففى الغطس فى البحر طقس من طقوس العبادة أيضا ليس فقط عند بعض الأديان كالهندوس، بل عند كل من يدينون بدين البحر ويغتسلون به.
• • •
نفس هؤلاء يعرفون معنى الصيف فى حضن البحر أينما كان هو؛ فى المعمورة أو سان ستيفانو أو شاطئ جليم أو بلاج المنتزه.. وهناك فى بلدان لا تبعد كثيرا عن البحر، كالإسكندرية، كان الموج الراكد ينادى مريديه والصيف يقترب أو حتى قبله وبعده. فكان أن يجهز الأطفال ملابس البحر، كانت البنات الصغار يلبسن المايوه قبل أن يصار إلى تحجيب البنت عند البلوغ! ويحملون ضحكهم ويرحلون إلى أحد الشواطئ أو يستأجرون بانوش يأخذهم إلى أحد الجزر القريبة. بقى شاطئ الزلاق فى البحرين هو الأكثر استقبالا للقادمين لا شاليهات كانت ولا حتى أى تسهيلات للمصطافين، فقط تأتى العائلة أو العائلات بعرباتهم ويختارون أى بقعة ليفترشوها عند الشاطئ المترامى الذى كان كله نعم، كله مفتوح لأى عاشق للبحر. وكان العرف أن تترك كل عائلة بينها وبين العائلة الأخرى مسافة احتراما لخصوصية العائلات، هذا الأمر الذى تلاشى مع الزمن بحكم تغير الأخلاق قبل العادات فلم يعد هناك من يرى أية أهمية لاحترام الخصوصية فى أى تفصيلة من تفاصيل الحياة.
• • •
يجرى الأطفال ليرتموا فى حضن البحر الذى يستقبلهم بكثير من المحبة، ويعلو ضحكهم وصراخهم وهم يصارعون الموجة، أو عندما يكون البحر هادئا يبحثون عن القواقع وفرسان البحر بين الصخور. كانت لعبتهم المفضلة من يسبح أسرع ليصل إلى نقطة ما، أو يبقى تحت الماء بعض الدقائق، أو حتى يجد صخرة بألوان نادرة وكل خيرات البحر. لم يكن هناك من يستغل هذه الصداقة فى حضن البحر ليصطاد أسماكه وهو يستمتع بالاغتسال به، ولم يكن من يترك مخلفات الأكل والشرب بعد الانتهاء من السباحة بل يجمع كل فرد الفضلات ويحملها لتوضع فى مكانها الصحيح.
• • •
يلتئم اللقاء بعد الظهر وعند اقتراب الغروب يهدأ الصغار ويتحول الكبار إلى جلسة مع الشمس وهى تعود إلى بيتها، وهم يحتسون الشاى والقهوة ويغتسلون بهدوء وجمال لا مثيل له أو هكذا بدا لهم.
• • •
يمر زمن فيكبر الصغار وينتقل الكبار إلى حيوات أخرى رغم أنهم أكثر حضورا من كثير من الذين لا يزالون بيننا ومعنا يمضون اللحظات بحثا عن المزيد من المادة أو الشهرة، وحتى عندما يهربون إلى البحر يلفظهم هو فيرحلون إلى بحور لا تشبههم ولا تناديهم فى غيابهم كما هنا!
• • •
هناك ميتون، كما قال ذاك الكاتب، هم أكثر حضورا من الأحياء. تسكنك اللحظة تلك.. نعم اللحظة التى ناداك فيها البحر وتبقى معك كما كل الأشياء، أم هى كما كتبت غادة السمان لغسان كنفانى فى رسائلهما «أى هرب ما دامت الأشياء تسكننا.. وما دمنا حين نرحل هربا منها.. نجد أنفسنا معها وجها لوجه».
• • •
هكذا تجد نفسك وجها لوجه مع شاطئ المعمورة مرة فى ذات صيف هربت فيه العائلة من حر الخليج إلى نسماته العليلة، ومرة أخرى فى بورسعيد فهناك أيضا مرت العائلة، أو فى الزلاق عندما تعود إلى سكنها الأول.. تداهمك صور الزلاق بعنف وأنت تقترب منه فى رحلة بدأت فقط بحثا عن ساعة غروب تشبه تلك التى لا تزال محفورة بالذاكرة على بحره وموجه وملحه يعيدهم إلى الحياة لحظة فيغتسل القلب قبل العين بهم.. تتفاجأ بحجم الدمار الذى حصل له كثير من الأسوار لبيوت بل قصور لم يعد البحر لنا بل هو الآخر نالته الخصخصة كما حال كل تلك الشواطئ. وكم القبح المنتشر يفسر حتما كم كان ما تبقى من فسحة للبحر ولنا لنلتقى، كم هو البحر لا يشبه ما كان عليه عندما كان فرحا بنا وينادينا.. لماذا تصرون على تدمير كل جميل حتى لو كان ذكرى أو صورة هنا أو هناك؟.. لماذا تجعلوننا ضعافا ومنكسرين أمام مناداته لنا؟ لماذا كل هذا القبح الذى لا يشبه أى من ذاكرتنا؟ كم نخجل كلما ينادينا البحر لأننا أعجز من أن ننقذه أو نرحل له لنكون فى حضنه.
خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات