أحيانا بل كثيرا ما يجد الكاتب وعليه أن يلتزم بتوقيتات محددة، أنه فى مأزق زمنى بين موعد تسليم المقال وموعد أحداث مهمة تقع بين ذلك الموعد وموعد النشر، والفرق بينهما قد يكون أياما. ومن هذا مثلا أنى أكتب قبل أيام من الانتخابات الإيرانية التى يضع العالم عينه عليها باعتبارها فاصلا بين امتداد فترة التوتر بين طهران والعالم استمرت خلال رئاسة الرئيس أحمدى نجاد، وليست كلها بسببه، وبين فتح صفحة جديدة بانتصار ممكن للسيد موسوى المحسوب بطريقة أو بأخرى على قوى الاعتدال. ولما كان الاعتدال أو التشدد هما فى النهاية أمرين نسبيين فى أغلب الأحوال يتأثران باعتبارات موضوعية، فإننى رغم كل ما ذكرت تحفظا واحتياطا أستطيع أن أقول إن هناك احتمالا بأن إيران وعلاقاتها بالعالم سوف يدخلان على أى حال إلى مرحلة جديدة، فإذا اتجهت الدولة العظمى الولايات المتحدة تحت رئاسة أوباما الجديدة التى تتسم بقدر كبير من الحكمة والشجاعة والموضوعية على الأقل حتى الآن، وإلى أن تثبت الأحداث مدى عمق تلك الصفات والاتجاهات أقول إذا اتجهت الولايات المتحدة بقدر ما نستطيع الحكم حتى الآن إلى تفضيل الحوار على المواجهات التى كانت أيديولوجيات بوش وزمرته من الحابسين أنفسهم فى أيديولوجية جامدة وغبية زادت الحرائق اشتعالا والأزمات اشتدادا، فإن نتيجة الانتخابات الإيرانية قد تكون على أى حال فرصة لحوار حقيقى يقلل من حرارة التوتر. وقد لمست خلال متابعتى الحملة الانتخابية فى طهران أنها رغم حرارتها وعنف الاتهامات المتبادلة جرت فى الظاهر على الأقل فى جو من الحرية التى تشير إلى احتمالات تطورات يمكن أن تكون إيجابية بدرجة أو بأخرى مهما كانت النتيجة التى مهما كانت فإنها قد تدفع أيا من الناجحين إلى الاتجاه نحو تخفيف التوترات الداخلية والخارجية.
ولعل القارئ يلاحظ أو يلوم حرصى على نوع من الحيطة والحذر ولكنى لم أجد غير ذلك سبيلا، فلا أستطيع أن أتجاهل ما سيحدث بين انتهائى من الكتابة والنشر، ولا أستطيع أن أقطع برأى، وبالتالى لا أملك إلا اللجوء إلى انطباعات لعلها تعكس آمالا، فلقد كنت وسأظل نصيرا للغة الحوار، خاصة فى العلاقات العربية الإيرانية بحثا عن المشترك، وإبعادا لما يثير الشكوك والمخاوف من تصرفات أعتقد أننا من الممكن أن نعمل على تجنبها حماية للمنطقة كلها من احتمالات يبدو أن البعض يعمل عن قصد أو غير قصد على تغذية السلبى منها. ولعل ذلك يحتاج مستقبلا إلى المزيد من التفصيل.
******
هذا عن الأحداث المتوقعة، وبينما أكتب سمعت فى الأخبار عن الشخص ذى الأصل الألمانى والميول النازية الذى قام بعملية إطلاق نار فى متحف المحرقة فى واشنطن. وأتوقع هذه المرة أيضا أن تحاول الجمعيات الصهيونية المتعصبة الأمريكية استغلال ذلك الحادث الإجرامى الذى لا أعرف تفصيلاته للتغطية والتأثير على الخلاف الذى بدا واضحا بين السياسة الأمريكية الجديدة وسياسات الحكومة الإسرائيلية الممعنة فى التعصب ورفض المبادئ الأساسية التى ارتضاها العالم وأيدها أوباما للتسوية؛ وهى احترام كرامة الفلسطينيين ووقف الاستيطان، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة فى حدود ١٩٦٧. وهو ما يتفق مع المبادرة العربية التى علينا أن نعمل على جعلها دائما فى مقدمة الطرح العربى، بل الدولى، اتفاقا مع المواقف الأمريكية الجديدة ومواجهة للحملات الإسرائيلية القائمة والمتوقعة سواء فى خطاب نتنياهو الموعود الذى سيكون بالقطع محاولة جديدة للخداع والتمويه، اتصالا بتصريحات ليبرمان وأمثاله، واستغلالا لكل حدث مثل حادث متحف المحرقة، ودعما لمحاولات بعض أعضاء الكونجرس المتعصبين لإسرائيل فى كل الأحوال لإعادة دفن الحقائق التى بدأت تظهر بوضوح للعالم عن جرائم إسرائيل وانكشاف حقيقة نواياها وتصرفاتها أمام الكثيرين ممن كانوا يغمضون أعينهم عمدا أو جهلا.
وليس من وسيلة لكى نستفيد من النوايا الحسنة للرئيس أوباما والعمل على نقلها من عالم الكلمات إلى عالم التصرفات من أن يتخذ العرب موقفا موحدا يتجاوز الخلافات والتنافسات، وأن يدرك الفلسطينيون أن انقسامهم أيا كانت مبرراته وملابساته تتجاوز نتائجه السلبية مسألة أيهما المخطئ فتح أم حماس، فكلاهما يتحمل مسئولية كبرت أو صغرت فيما آلت إليه الأمور بينهما، بينما الذى يدفع الفاتورة هو الشعب الفلسطينى فى حياته اليومية وآماله المستقبلية وطموحاته الوطنية. فليس من المقبول أخلاقيا وسياسيا ووطنيا وقوميا ألا يسهم كل الفلسطينيين فى إنجاح الجهود المصرية لتوحيد الصفوف لمواجهة المؤامرات الإسرائيلية وتدعيم براعم الجهود الدولية التى يبدو أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر استعدادا لبذلها فى الطريق الصحيح.
*******
أما الموضوع الثالث الذى أريد أن أتطرق إليه فهو الانتخابات اللبنانية، وقد جرت تلك الانتخابات التى سبقتها حملة اتسمت بالهدوء الفعلى والعنف الكلامى غالبا فى أجواء من الحرية رغم المحاولات الكثيرة للتأثير عليها سواء من جانب الولايات المتحدة خلال زيارات نائب الرئيس ومسئولين آخرين، أو من جانب إيران ومساندتها لحزب الله، أو أطراف أخرى تدخلت لمساندة طرف أو آخر بمختلف الوسائل، وجاءت النتيجة لتحافظ بصفة عامة على التوازنات التى تجعل التعايش ممكنا، بل ضروريا، فى إطار تحالفات لم تتغير قبل أو بعد الانتخابات وجاءت ردود فعلها على النتيجة هادئة إلى درجة كبيرة، لأن أيا منهما لم تستطع أن تسحق الأخرى حتى إذا كانت تريد ذلك. والخلاصة، أن المسرح السياسى فى جوهره لم يتغير، ولكن وبعد أن أدركت كل القوى أنها مضطرة إلى التعايش فقد يجعل ذلك الائتلاف الوزارى يستمر فى أجواء قد تكون أهدأ مهما كانت أعداد المقاعد فى مجلس النواب التى لن تعطى أحدا حق الفيتو المطلق.
وقد جاءت ردود فعل ممن يعتبرون المنتصرين، ومن يعتبرون الخاسرين، هادئة تدل على أن فكرة «لا منتصر ولا مهزوم» قد تجعل الحكم أكثر قدرة على أن يتفرغ للعمل أكثر لمصلحة لبنان مما ينشغل بتحقيق تفوق واهٍ استنادا إلى اعتبارات خارجية، وقد يكون ذلك أسهل إذا أثبتت انتخابات إيران أن الفائز سيضطر إلى فتح صفحة جديدة مع العالم، وفى ضوء اتجاه الإدارة الأمريكية إلى تفضيل الحوار مع إيران وسوريا على مغامرات الصدام.
وقد يؤدى كل ذلك إلى تحسن الجو العربى العام وتزايد إمكانات المصالحات التى أجهضت فى الماضى القريب بعد محاولات تحقيقها، ويصب ذلك ــ كما ذكرت سابقا ــ فى صالح دعم المواقف الدولية التى بدا بعضها مستعدا للتخلى عن مساندة إسرائيل دائما وباستمرار، إلى اتخاذ مواقف أكثر توافقا مع العدالة الدولية كأساس وطيد، بل وحيد، لإقامة سلام تستفيد منه جميع شعوب المنطقة وتنعكس آثاره على تسوية الكثير من المسائل الملحة مثل التسليح النووى الحالى والمحتمل، وموضوعات الاقتصاد والتنمية وغيرها.
******
وهكذا، أجد نفسى وقد جنحت إلى التفاؤل رغم ما تردد مؤخرا ارتباطا بالأحداث التى أشرت إليها والتى جعلت الكثيرين يميلون إلى التشاؤم، والحقيقة أن الموضوع لا يكمن فى التفاؤل أو التشاؤم، فالمشاعر والأحاسيس على أهميتها لن تقود العالم إلى آفاق أكثر قتامه أو إشراقا، بل إن العمل الدءوب المستند إلى وقائع هو خليط مما قد يولد الأمل، وما قد يخفف منه أو حتى يناقضه، وهذا ما أعتقد أنه مهمة كل الحريصين على مستقبل العمل العربى المشترك لصالح جعل المنطقة قوة دافعة نحو الأحسن لشعوبها لتنعم بحقوقها إزاء الداخل والخارج، وتتعاون على تجنب سيادة الظلام على النور، والظلم على العدل والإنصاف، وتفتح الآفاق أمام الاقتناع بأنه «لسه الأغانى ممكنة» ومازالت الأمانى قادرة على أن تكون قوة دفع نحو الأفضل. ولكنى أسارع بالقول إن المعجزات لم يعد ذلك عصرها، وأن المعجزة الوحيدة هى أن يتضح الطريق فيسير المسافرون عليه بدلا من أن يضيعوا فى متاهات لدغوا من جحورها من قبل مرات ومرات.
يبدو لى أن هناك فرصا ويبدو لى أننا قد نكون مازلنا قادرين على انتهازها.
أنا أكتب هذا الكلام من روما، حيث شاهدت وصول العقيد القذافى فى زيارة رسمية اصطحب فيها من أعتقد أنه حفيد لعمر المختار «قائد الثورة ضد الاحتلال الإيطالى الذى قتل بأن رمى به حيا من الطائرة» كدليل جديد، إضافة إلى الاتفاق السابق على تسوية آثار الاستعمار على أن المصالحات ممكنة مهما كانت أحداث الماضى إذا حسنت النوايا واقترنت بالأفعال التى تسير فى الاتجاه السليم.