أولا: كنت أتصور أن الانفتاح الإعلامى الذى أتاح قدرا من حرية الكلمة والتعبير لم يكن متاحا منذ فترة طالت أكثر ما كان ربما مطلوبا أو ضروريا فى ظروف لم تكن كلها مقنعة، كنت أتصور أن هذا الانفتاح ــ بعد فترة لا يمكن تجنبها من المبالغة المثيرة للغط لا تلبث أن تصل إلى توازن بين النقد والردح، وبين الهجوم والتهجم، فنصل إلى أسلوب الحوار الحضارى الذى يستند إلى المحبة والمنطق وليس إلى السخائم والشتائم التى لا منطق لها وبالتالى لا تستطيع أن تقنع بل هى تستفز ويضيع فى خضم الاستفزاز ما قد يكون فى الأفكار أو ما يتخفى وراءها من أمور قد تقنع لولا اختلاطها بألوان من النفاق ــ نفاق الحكم فى جناح من أجنحته، أو نفاق المعارضة فى شكل من أشكالها ــ أو من إفلاس الحجة وفساد البرهان مما تضيع معه الحقيقة عندما تختلط عمدا أو جهلا بالطين.
إن الحوار هو السمة الصحية التى تدفع الأمور فى الوطن إلى تجاوز الأخطاء وتواصل المسيرة نحو إصلاح هو مطلوب فى كل مناحى حياتنا. ولكن يبدو أن بعضنا لم يستطع بعد أن يعتاد على جو من حرية التعبير (مهما كانت أحيانا مخاطر التعبير التى هى جزء لا يتجزأ من المسئولية فى جميع الظروف والأحوال) فمازال إذا اختلف عبر عن اختلافه بالسب واللعن دليلا على افتقاره إلى الحجة ليعبر عن حقيقة قد يمتلكها، وإذا انتقد تجاوز أدب النقد إلى أسلوب إطلاق اللسان وتحويله إلى مدافع ثقيلة تقذف ذخيرة فاسدة لا تقنع حتى من يكتبها ولا ترضى أو تفيد من تكتب من أجل إرضائه.
مازال أمامنا طريق طويل حتى نتعلم فى حياتنا العامة كما فى حياتنا الخاصة لغة الحوار السليم وأسلوب التحاور السديد الذى يستفيد من جو من الحرية الكبيرة حتى إذا كانت نسبية فى التعبير. ويحتاج هذا أولا إلى أن يحاول المحاور أن يمتلك ناصية الموضوع الذى يريد أن يتناوله، أو أن يقر بوجود أوجه قصور فى معرفته بما يتناوله فيبدو قدرا مناسبا من التواضع والاستعداد للاستماع إلى حجة الطرف الآخر بعقل مفتوح لعل هناك بين الرأيين والموقفين ما يستفيد منه الطرفان وينعكس بالإيجاب على مصالح الوطن الذى أريد أن أتصور أن غالبية من يتصدون لأموره ــ الإيجابى منها والسلبى يريدون بصدق وإخلاص تحقيق مصلحته، وليس استرضاء طرف أو آخر أو نفاق جهة أو أخرى طمعا فى مكسب لا يتحقق فى الحقيقة إلا بإصلاح الأخطاء وتقويم الاعوجاج بعد الكشف عنه ــ ليس لأغراض شخصية أو شخصانية ــ بل لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن المجاهر بالباطل شيطان كثير الكلام، أكتب هذا بعد متابعة ملاسنات لا تليق بمن يتباهون بقيمتهم ويملأون مقالاتهم بالحديث عن أنفسهم وعن مناقبهم دون سند أو دليل ــ ويملأون الصفحة تلو الصفحة والعمود بعد العمود فى صحفهم بما لا يفيد فى النهاية إلا فى رفع درجة حرارة النقاش فينقلب إلى نوع من «الإنفلونزات» «جمع إنفلونزا» الغريبة التى ألمت بنا. وإذا رجعنا إلى صحفنا فى قرون سابقة لوجدنا كثيرا من المساجلات العنيفة فى مضمونها ولكنها مهذبة فى شكلها، رصينة فى أسلوبها، قليلة فى تجاوزاتها، لأسماء اكتسبت الاحترام والتقدير لأنها كانت نبيلة فى جوهرها، حريصة فى عنفها تعرف أين تتوقف.
وأتمنى حقيقة أن نتعلم فن الخلاف والاختلاف، وأن نتقن أساليب النقد الذى قد يصل إلى حد الهجاء المهذب وقد يكون لاذعا ولكنه لا يستهدف إسالة الدماء بقدر ما يستهدف تنشيط الدورة الدموية لكى تغذى التطلعات الحقيقية إلى الإصلاح الجاد الذى يحتاج إلى الجهود المخلصة لجميع الأطراف مهما كانت اتجاهاتها وآراؤها. ولست أشك فى أن هذا الأمل يمكن أن يتحقق، وأن ذلك لا يتوقف على قرارات حكومية من إحدى الهيئات المختصة بالإعلام والصحافة، بل يتوقف على القراء والمشاهدين والمستمعين وقدرتهم على أن يترجموا أحكامهم وتقديراتهم إلى مواقف عملية ملموسة.
ثانيا:أسعدنى أن أشارك فى ندوة نظمها المنتدى الاقتصادى المصرى الدولى حول العالم والشرق الأوسط وأوضاعه، وأن أتحدث فى نقاش عام مع السفيرة الأمريكى فى القاهرة تناول فيما تناول العلاقات المصرية الأمريكية، والموقف الدولى، وخطاب الرئيس أوباما فى الجامعة.
ولا أود تلخيص ما دار فى هذا اللقاء، فقد سبق لى أن كتبت رأيى فى الرئيس الأمريكى الجديد وما يمثله من ثورة حقيقية فى الحياة السياسية الأمريكية من واجبنا أن نعمل على الاستفادة منها ومن توجهاتها قبل أن ينجح اللوبى اليهودى فى الانقضاض عليها، ولكن ما أريد أن أقوله إنى لمست لدى الحاضرين ــ وهم من رجال الفكر والاقتصاد والإعلام والسياسة ــ أنهم كانوا يشعرون بنوع من التفاؤل ليس فقط كرد فعل لانقشاع السحابة السوداء التى كان يمثلها عهد بوش الابن وتشينى ورامسفيلد، ولكن لإحساسهم بأن فرصة جديدة اتيحت لإقامة علاقات سوية بين الدولة الأعظم والعالمين العربى والإسلامى على أسس من المساواة والاحترام المتبادل تساعد على تحريك الأمور بصفة عامة إلى اتجاهات سليمة دون ضغوط مرفوضة ومغامرات غير محسوبة أو مخطئة فى حساباتها.
ولقد شاهدنا فى الفترة الأخيرة الفرق بين التعامل العقلانى للإدارة الجديدة وتعامل الإدارة السابقة خاصة فيما يتعلق برد الفعل لأحداث إيران المؤسفة، فقد تدرج رد الفعل من الهدوء المتسم بالأمل، إلى النقد المدروس الذى يحتفظ بدرجة معقولة من الحرارة وكذلك بالنسبة لسوريا، حيث تنوى إعادة السفير إلى دمشق، ورأينا أيضا كيف الإدارة الجديدة تمسكت إزاء إسرائيل بموقفها من التوسع فى المستعمرات، وإن كان هذا الموقف الأمريكى الذى بدأت إرهاصاته الإيجابية وإشاراته المبشرة فى خطاب القاهرة، يحتاج إلى مزيد من الجهد العربى لكى يتسع التحرك الأمريكى ليشمل موضوعات لم يتناولها الرئيس أوباما ولم يتناولها بالوضوح الكافى فى خطابه مثل موضوع الانسحاب ومداه، والقدس، واللاجئين، ورفع الحصار عن غزة، رغم إشارات يجدر بنا أن نعمل على ترجمتها إلى مواقف محددة أو أكثر تحديدا. وقد أسفت لأن اجتماعا عربيا عقدته الجامعة العربية لهذا الغرض لم يحظ بحضور جميع وزراء الخارجية العرب. ولكن الاجتماع على أى حال أكد التمسك بالثوابت العربية وبالمبادرة العربية للسلام، كما أكد الاستعداد للتعامل بإيجابية مع طرح أوباما، واتفق على بلورة موقف عربى فى ضوء المستجدات الراهنة واحتمالات المستقبل.
وهى أمور نرجو أن تترجم إلى مواقف محددة، سواء بتأييد الجهود المصرية لإنهاء الخلاف الفلسطينى الذى لا يستند إلى أى أساس متصل بالمصالح الفلسطينية الحقيقية التى هى أهم من فتح وحماس، ومن توزيع المناصب التى هى فى أغلبها وهمية، أو بمساع عربية لتشجيع الاتجاهات الإيجابية التى بدت من الولايات المتحدة، ومن روسيا بدعوتها إلى مؤتمر للسلام فى موسكى قبل نهاية العام.
ثالثا:وقد أتيح لى من جهة أخرى فرصة التقاء الرئيس الروسى «ميدفيديف» فى عشاء محدود فى السفارة الروسية حضرته بعض الشخصيات المصرية المهمة وإذا كنت لست فى حل من ذكر ما جرى من أحاديث، فإنى أستطيع أن أقول إنى لمست من الرئيس الروسى رغبة حقيقية فى تنشيط جهود بلاده نحو المساعدة على تسوية فى الشرق الأوسط تتفق مع مبادئ العدالة والشرعية والسلام الحقيقى، وأنه أكد التصميم على عقد مؤتمر للسلام فى موسكو قبل نهاية العام، لا شك سوف تسبقه جهود لتوفير أفضل الظروف لكى يكون انعقاده مثمرا. كما بدا اهتمام الرئيس الروسى بتطوير وتوطيد العلاقات بين مصر وروسيا فى جميع المجالات، وتناول الحديث أيضا الأوضاع الدولية بصفة عامة فبدا متابعا لها متابعة دقيقة وواعية، وقد لمست فى حديثه بصفة عامة معرفة واسعة بمختلف الموضوعات، وثقة بالنفس وواقعية تتسم بإدراك بأن بعض الواقع يحتاج إلى تغيير.
وهكذا استطاعت القاهرة فى الفترة القليلة الماضية أن تتحاور مع قمتى العالم ــ واشنطن وموسكو ــ وتنقل إليهما على أعلى مستوى آراءها وتطلعاتها فى مرحلة دقيقة من مراحل تطور الحياة السياسية الدولية. وهو أمر يستحق الترحيب به ويثير الارتياح.