مع الكلمة الأولى لم يتقنوا جمع الكلمات معا.. فقط كانت الكلمة وسيلة للتعبير عن نصف الباطن فى النفس والباقى يضعه الرقيب السياسى والاجتماعى والأخلاقى فى خانة الممنوعات من الخروج إلى العلن فتكون الفضيحة! كان الكلام هدفا دون معنى وكان تكرار الكلمات لا يعنى الكثير ولا حجر على أى شىء سوى أن يكون ذلك شيئا من التجريح «بالرموز» تلك التى خلقوها هم أيضا وهللوا لها ورسموا الحدود حولها سواء من يصل لها أو من يتحدث عنها.. وأحيانا ألهوها فأصبح الخوف منها أكثر من الخوف من الخالق! عجبى!
كانوا «مساحين» مهرة وهى مشتقة من خلق المساحات أو الفضاءات لكل «الرعية» يتحركون فيها كما يشاءون دون أن يتخطوها ولذلك لم يعرف «الرعية» معنى الحوار المطلوب منهم الآن أن يمتهنوه بحرفية عالية.
فى البدء خطوا حرف الراء وصنعوا الكلمة ثم الجملة ثم الحديث الأنسب أن نقول ثرثرة والآن يراد منهم أن يتحول هذا الحديث إلى حوار علمى وبناء!!
حوار لم يعرف الكثيرون عنه سوى أنه خاصية للنخبة أو «للرموز» للطبقة الحاكمة كما يراد لها أن تعرف ولم يكن مسموحا للعامة أو «الرعية» أن يخوضوا فيه ويمتهنوه إلا من سمح لهم ووضعوا فى درجات أعلى من بين الرعية!
لقد غاب الحوار عن غرفنا، المغلقة منها، طويلا.. وها هو يعود الآن نبحث عنه منذ أن كانت الصرخة الأولى التى دوت من جادات تونس حتى ميادين الأحياء الراقية والمدن الساكنة.. أن تفهم ما معنى الحوار.. وكيف يكون وإلى أين يفضى؟ كلها تبدو إضافات لقواميسنا البالية التى لم تكن تتقن سوى لغة الصراخ المفتعل والرأى الواحد والرؤية الواحدة ايضا..
هنا فى هذا الجوار من خارطة معقدة اشتدت ضبابية الصورة هل نبدأ بالحوار ثم يزداد الدم سقيا للأرض فيبعد الحوار كثيرا ثم يعاد التكرار ما زالت هناك مساحات له.. فيردد المنكوبون المغتسلون بدماء أبنائهم وأطفالهم ونسائهم «لا حوار مع القتلة».. تنتهى الرحلة الأولى فى المشوار الطويل.. تسدل الستارة على الفصل الأول ثم وما إن يبدأ الفصل الثانى حتى يعود الحديث للحوار والآن ليس بين من استرخص الدم والعرض بل بين الرفيق والرفيق.. أولئك الذين كانوا يقفون كتفا بكتف يصدون بأجسادهم رصاصا وحجارة وكلمات من كثير من الحقائق المفبركة والمصنعة حتى إن البعض راح يقول «أية رواية أصدق هم أم أنتم؟؟؟»» ضاعت الحقيقة أحيانا وما زال الحديث دائرا والأسطوانة تكرر نفسها، مشروخة هى، لا حل سوى بالحوار..
ويبقى العالم المتفرج الذى سبق الجميع إلى هناك إلى مساحات الحوار المفتوحة دون «صريخ» أو حتى حجر على الرأى والرأى الآخر (الذى تكرره قناة تلفزيونية حد السماجة وهى تعبيد خلق الرأى الواحد الأحد لا شريك له!!) يقول العالم ابدءوا بالحوار.. عودوا إلى الموائد المستديرة لا رأس لها ولا رئيس.. ابقوا على ذاك الخيط وهناك ابسطوا الأرض المسطحة وعبدوا الجديدة للحوار الذى يبدأ بأسس ربما أولها الاعتراف (أى معرفة الحقيقة ماذا حدث وكيف ومن هو المسئول)، ثم ربما سلطة القانون للمحاسبة وليست سلطة الثأر وقانون الغابة ذاك الذى حكم فى السابق أيضا فلا يجوز أن تكون أدوات الثائر والجلاد متساوية فى المعنى والطريقة، بل سبل الثوار مختلفة وأولها البعد كثيرا عن نفس تلك الممارسات التى تنبذ الآخر أو تلك التى تصنف البشر كل البشر على اساس من العرق والجنس والطائفة والقبيلة والولاء والعمالة.. والقائمة تطول فقد «هرمنا» ونحن نسمع مصطلحات صنعها «ترزية» الأنظمة البالية..
شىء مما يحدث الآن وهنا فى كل هذه البقعة مخيف لأنه يفتح الستارة على طاقم لم يتقن دوره كثيرا فعاد يجتر من الأدوار القديمة أدواتها.. الصراخ والتخوين والتكفير واستخدام الدين تارة والمذهب تارات والعادات والتقاليد وشىء من الخرافات والشعوذات..! كيف يكون الحوار الجديد بأدوات قديمة؟
شىء ما ندركه يوميا من قراءاتنا المستمرة وتمحيصنا فى الصحف وأمام نشرات الأخبار والبرامج الحوارية ــ وما أكثرها ــ وهو أن علاقتنا بالحوار وفهمنا له تبدو ضعيفة جدا أو ربما معدومة.. وأنه علينا أن نتعلم الكثير من أولئك الذين مروا من هنا قبلنا وهم كثر وأكثرهم قربا يقولون لنا إن علينا بقراءة معمقة لتجاربهم وأن نتمرن بعض الشىء على الإصغاء للآخر وسماعه بقلوبنا لا بآذاننا فهى الأكثر صدقا والأكثر قدرة على المضى إلى الأمام دون نسيان الماضى ولكن دون أيضا الانغماس به حد نسيان أن المستقبل أجمل! القلوب شواهد دوما.