على مائدة للعشاء جمعت مجموعة منوعة من العرب نساء ورجال.. شباب وآخرين أكبر فى العمر.. جميعهم تؤرقهم اللحظة وماذا بعدها وأكثرهم قلق هم القادمون من ممالك النفط والبلح! يقول لهم الفلسطينى كيف ينتابكم القلق على مستقبل وأنا الذى عشت كل سنين حياتى أعيش اللحظة وكثيرا من الماضى.. يردد السورى وماذا عن بيتى الذى تحول إلى ركام آخذا معه كل ضحكات أمى ووجع أبى وطفولتى البريئة.. يتنهد العراقى طويلا ويعيد أغانى ناظم الغزالى عند ضفاف دجلة ويصمت لأن الصمت أكبر تعبير..
***
الحديث كله عن إلى أين؟ وأين نرحل حينما ضاقت أوطاننا بنا أو كاد الخوف يسرق منا حتى قلق الليل وأصبح النوم نعمة كبيرة لا تحل إلا فى المناسبات.. يتجول الحضور بين قضمت من الأطباق الشهية على مائدة تمثل التنوع العربى النادر بثقافة طعامه الغنية.. يتوقفون عند العواصم التى بدأت تمنح جنسيات أو موطن للهاربين من الخوف.. هم لم يكونوا يوما جبناء الكلمة التى يعشق بعض أصحاب «العنتريات» ترديدها ولكن لم يعد فى العمر متسع وفيما كان الخوف فى الماضى من ظلمات السجن تحول تدريجيا إلى تنويعات مختلفة من العقوبات التى تبدو أحيانا فى شاكلاتها وكأنها مخففة أو حكم بالموت مؤجل!
***
يدورون على مدن الكون التى قد تحتضنهم إذا ما ضاقت بهم «دواعيس» ديرتهم وأصبحت الشوارع والأرصفة والمقاهى والدوائر والشركات والجامعات والمدارس ذات لون واحد لا ثانى له.. هنا يرددون عليك عندما يختمون جواز سفرك وأنت عائد للوطن متشوق للأهل والأحبة.. هنا يوقفونك قليلا أو كثيرا هنا يقولون لك إنه إجراء روتينى ثم يعيدون إلى جواز السفر! ربما كما يقول أصدقائنا وأهلنا فى الشام «شدة وذن» ومن بعدها على النبيه أن يفهم أو أن يرحل بلا عودة حتى لزيارات قصيرة متقطعة يتفقد فيها جدران مدينته العتيقة ويسمع فيها أصوات اليامال والغواصة الذين لم يشاهدهم أبدا عائدون إلى أحبتهن عند الموجة الأولى.. حتى هذه قد تصبح رفاهية كبيرة قريبا قال ذاك وهو يبتسم بخبث.. يردد كنت أحلم بالعودة وأبحث فى كل زيارة عن صداقاتى القديمة وأنبش أرقام الهواتف وأسير فى الشوارع أبحث عن نفسى فى طرقات واسعة وجميلة ولكنها لا تشبهنى ولا تشبه طفولة كانت.. هذه سنة الحياة يقولون ألا تحب التطوير والتقدم ألا تريد لبلدك أن يضاهى طول العالم فى ناطحات السحاب كمدينة نيويورك حيث تحولت أسطح مبانيها إلى متنزهات عندما اختنق سكانها من طفرة الأسمنت والعمارات الزجاجية هناك لديهم سنتر بارك ليتنفسوا من بعض الشجر وأنتم ماذا لديكم؟ حتى بحركم أصبح كومة من الرمل خنقت أسماككم الجميلة طعام فقرائكم وأغنيائكم... وتحول البحر لمقابر جماعية لثروات وذكريات أيضا..
***
يعود الجالسون والمائدة قد تغيرت وأنزلت الحلويات ما لذ وطاب هذه بقلاوة أحضرها أخى وهو قادم من بيروت وتلك برازق من الشام الناهضة من تحت الرماد والعراقى يعود ليتفاخر بمن السما فلم يتبقى من العراق الذى كان سوى هو والمسجوف والدولما! وحلوة طيبة من الخليج مع سمبوسة حلوة طعمها أهلنا بكثير من الزعفران وماء الورد.. بعض القهوة على النار تنتظر أن تنهى السهرة ولكنها سهرة لا تنتهى فهى سهرة التنهدات الطويلة والبحث مستمر والحضور كأنهم فى درس للجغرافيا يمرون بمدن لا يعشقها الخليجيون عادة هم خليجيون لا يعرفون ماربيا ولا كان ونيس فى جنوب فرنسا ولا الريفيرا الإيطالية ولا حتى بودروم التركية.. هم خليجيون يبحثون عن الحقيقى من المدن والبشر لم يفعلوا أكثر من ذلك فى كل حياتهم التصقوا بثقافة الكون مع تمسكهم واعتزازهم بثقافاتهم ولكنهم لا يجدون لهم مكان وسط ترسخ ثقافة التسلق والاستهلاك القاتمة ولا يعرفون الحديث عن آخر صيحة للشنط النسائية أو الساعات الملصعة بالألماس ولا تشغلهم السيارات الفاخرة.. هم مهمومون بالمقبل خائفون على أطفال خلقوا وفى أفواه بعضهم ملاعق تلمع لها بريقها حتى تصوروا أن كل شىء هو ذهب وهم أنفسهم من يرددون أحيانا «لماذا لا يأكلوا البسكويت» ! جاءت القهوة لتنهى السهرة وليس الحديث والهم الباقى غصة لكثير منهم عرب وخليجيون خائفون من الخوف!