يبدو أن هناك مشكله فى تحديد أولويات التحرك الاقتصادى فى هذه المرحلة الحرجة للخروج من دائرة الركود ومواصلة عمليات التنمية. وهذه القضية على مستوى كبير من الخطورة لأن نمط الأولويات المعكوس يؤدى إلى سوء تخصيص الموارد المالية والبشرية فى مرحلة حرجة من التاريخ المصرى الحديث.
وفى ضوء تصريحات بعض المسئولين وما تمخض عن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى يبدو التركيز على المشروعات الاستثمارية الكبرى Mega projects دون الالتفات إلى مجالات الاستثمار الأخرى التى تبدو أحيانا أكثر إلحاحا للخروج من عنق الزجاجة (إعادة تأهيل شركات قطاع الأعمال العام، وغيرها من المرافق الحيوية كالكهرباء، والسكك الحديدية، وكذلك المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر).
وإذا بحثنا فى الأساس النظرى لهذه التوجهات يبدو أنها تنتمى إلى ما يسمى مدرسة اقتصاديات العرض (supplyــside economics)، التى تمثل إعادة صياغة أخرى لنظريات اقتصادية تتحدث عن «آثار التساقط»، حيث إن المستهلكين سوف يستفيدون من المزيد من عرض السلع والخدمات نتيجة توسع الاستثمارات التى يقوم بها رجال الأعمال نتيجة منحهم امتيازات ومزايا ضريبية تتمثل فى تخفيف الضوابط وتخفيض المعدلات الحدية للضرائب على الدخول المرتفعة.
وقد تطورت تلك النظريات خلال السبعينيات من القرن الماضى فى مواجهة السياسات الكينزية وتم الارتكاز إلى العديد من المقولات لمدرسة شيكاغو فى التحليل الاقتصادى. وفى هذه التحليلات تم إحياء قانون Say's Law للأسواق حيث الإنتاج (أو العرض) هو الذى يحدث الانتعاش الاقتصادى وأن اعتبارات الطلب تعتبر أهميتها من الدرجة الثانية. وكان كينز قد هاجم قانون Say's للأسواق وقلبه على رأسه بمعنى «أن الطلب الفعّال هو الذى يخلق العرض الخاص به». وهذا يطرح ضمن ما يطرح قضية نمط توزيع الدخل والثروات فى المجتمع.
ووفقا لرهانات أنصار نظرية «جانب العرض» أن هذه السياسات تؤدى إلى توزيع الدخل القومى لصالح الاستثمار على حساب الاستهلاك وخصوصا لصالح الاستثمار الخاص الذى يحقق دوما العائد التنموى الأكبر!!
وقد تعرضت مقولات نظريات «جانب العرض» لعديد من الانتقادات من اقتصاديين كبار مثل: Paul Krugman ، وGreg Mankiw، وJames Tobin (الحاصلين على جائزة نوبل فى العلوم الاقتصادية).
•••
وإذا كانت هناك ضرورة للتركيز على بعض المشروعات الكبيرة لتوليد قدر أكبر من النمو والتشغيل فى إطار الطاقة التمويلية المتاحة، فهناك ضرورة قصوى لحل الاختناقات التى تعانيها الطاقات الإنتاجية القائمة وخصوصا فى شركات القطاع العام، إذ تعانى قلعة صناعية مهمة مثل مصنع الحديد والصلب من العديد من المشكلات، فهى تحتاج لقدر كبير من الاستثمارات لتجديد المعدات والأفران العالية حتى يتوقف نزيف الخسائر ويتم الحفاظ على العمالة المدربة. ومثل هذه الصناعات الاستراتيجية لا يقاس عائدها بمعايير الربحية المالية التقليدية بل بمعايير ما يسمى «معايير الربحية الاجتماعية»، من حيث دورها فى توفير المدخلات اللازمة للصناعة وتوليد فرص عمالة للصناعات الأخرى والاكتفاء الذاتى فى خامات استراتيجية مثل الحديد والصلب.
ويعانى قطاع الغزل والنسيج بدوره من أزمة مماثلة إذ تتوالى الخسائر المالية وتعانى هذه الصناعة العريقة من أزمات عديدة تتعلق بعدم تجديد المعدات وعدم توافر الأقطان ذات التيلة المناسبة، وتحتاج هذه الصناعة إلى تدخل جراحى وتمويلى للحفاظ على موقعها فى بنية الاقتصاد المصرى والحفاظ على الحجم الهائل من العمالة المرتبطة بهذه الصناعة. ونجد نفس المشكلة متكررة فى العديد من الشركات القابضة فى فروع الصناعة المختلفة: الغذائية والكيماوية والمعدنية وغيرها. وكل هذا يستدعى إنشاء وزارة مستقلة للقطاع العام تسهر على حل مشكلاته بعيدا عن وزارة الاستثمار التى يجب أن تتفرغ لحل مشكلات الاستثمار الخاص والاستثمار الأجنبى.
•••
وإذا انتقلنا إلى قطاع الزراعة نجد أن هناك مشكلات كبرى تتعلق بأهم محصولين: القطن والقمح، ولكن مشكلة زراعة القطن تعتبر المشكلة الكبرى، فقد تفاقمت خلال السنوات الأخيرة إذ انخفضت صادرات القطن المصرى بنسبة كبيرة، وقد أرجع الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تراجع صادرات القطن إلى انخفاض المساحة المزروعة لعزوف المزارعين عن زراعة القطن واتجاههم لزراعة محاصيل أخرى أكثر ربحية. ومن ناحية أخرى، هناك تراجع كبير فى الكمية المستهلكة من الأقطان المحلية نتيجة اتجاه مصانع الغزل لاستهلاك الأقطان المستوردة، بالإضافة إلى توقف عدد من مصانع الغزل والنسيج عن الإنتاج.
ويعود كل ذلك إلى تحول محصول القطن، ما كان يسمى فى السابق الذهب الأبيض، إلى محصول خسارة نتيجة انخفاض سعره بعد أن رفعت الدولة يدها عن هذا المحصول الاستراتيجى وتركت الفلاح عرضة للتلاعب من قبل التجار. وكان المزارعون يعتمدون على موسم حصاد القطن لتسديد ديونهم لبنك التنمية والائتمان الزراعى وسداد فواتير السماد والبذور للجمعيات الزراعية. وفى الموسم الزراعى الأخير قام العديد من المزارعين بحرق المحصول قبل جنيه بسبب زيادة تكلفة جنى المحصول عن سعر التوريد.
وهكذا.. فإن غياب سياسة زراعية يعتبر مشكلة رئيسية تواجه الاقتصاد الوطنى، حيث لا توجد أى سياسة تتعلق بالتركيب المحصولى أو السياسة السعرية للمدخلات الزراعية، وخصوصا الأسمدة.
وكل هذه المشكلات فى الصناعة والزراعة تعنى أنه لابد من وضع سياسات ذات أولوية للاستثمار والتمويل لإنقاذ دولاب الصناعة فى القطاع العام واقتصاد القطن وغيرها من السلع التموينية التى تمثل المحرك الرئيسى للاقتصاد الوطنى.
•••
خلاصة القول هنا أن التركيز على المشروعات الكبيرة الجديدة وحدها لا يساعد على النهوض الاقتصادى فى ظل الوضع الرهن للاقتصاد المصرى الذى يعانى أزمة كبيرة فى قطاعى الزراعة والصناعة. ولهذا فإن الاستراتيجية المثلى لابد أن تكون استراتيجية «السير على ساقين»، وهى استراتيجية تم تطبيقها بنجاح فى حالة الصين حيث كان هناك تركيز فى الوقت نفسه على الصناعات الكبيرة والصناعات الصغيرة، من ناحية، والتكنولوجيات المتقدمة والتكنولوجيات التقليدية، من ناحية أخرى. كما كان هناك اهتمام كبير بالبعد المكانى حيث تم توزيع الأنشطة الاستثمارية والمشروعات الجديدة على المناطق المختلفة وخاصة المناطق التى تعانى من الركود وضعف النشاط الاقتصادى. وينطبق الحال هنا فى مصر على بعض مناطق الصعيد الأكثر فقرا وتخلفا وكذلك منطقة بورسعيد التى تعانى كسادا تجاريا والتى تحتاج إلى جرعات تنشيط اقتصادى. وقد نجحت السياسة الاقتصادية خلال الفترة الناصرية فى مراعاة هذا البعد عن طريق توطين مصنع كيما فى أسوان ومجمع الألومنيوم فى نجع حمادى.
وذلك حتى لا تكون التنمية فى بلادنا عرجاء تسير على ساق واحدة.