أعلنت الصين حظر التعامل على العملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين بنهاية شهر سبتمبر 2021. وجاء رد الفعل بانخفاض حاد فى سعر البيتكوين وصل إلى 8%، ثم عاود السعر الارتفاع بالتدريج لكنه لم يعوض الخسارة بالكامل. وتعتبر الصين أكبر مركز للتعدين الإلكترونى فى العالم، والذى يعنى أنها أكبر مركز يستطيع استخراج البيتكوين من شبكة الإنترنت. ولكن تتسم هذه العملية بالتكلفة المرتفعة، فهى تستهلك كهرباء بكثافة وكلفة عالية، ومن ثم تعطل مستهدف الصين لعام 2030 للحد من الانبعاثات الكربونية، والتى تطمح أن تتحول إلى اقتصاد بلا انبعاثات كربونية مضرة بالتغير المناخى بحلول عام 2060. وفى السياق ذاته، أعلنت الصين عن خطتها الخمسية رقم 14 وما وراءها من أفكار واستراتيجيات، ونصت على توجيه جهود القطاع المالى لخدمة الاقتصاد الحقيقى والبعد عن خدمة اقتصاد المضاربات والذى يقوم جزء منه على المتاجرة فى العملات المشفرة. وتعمل الصين على إصدار اليوان الإلكترونى، أى العملية الصينية الإلكترونية التى يصدرها بنك الشعب الصينى (البنك المركزى)، وتعميمه قبل نهاية 2022 ليصبح متاحا فى دورة الألعاب الشتوية التى تنظمها الصين. ومن الصعب تخيل أن هذه العملة المركزية ستعيش جنبا إلى جنب بجوار العملة الإلكترونية المشفرة، التى لا تصدر عن أى بنك مركزى، ولا تتحكم فيها أى دولة. هذا وللتذكرة، فإن دولة وحيدة فى العالم قررت إصباغ العملات المشفرة بالصبغة القانونية، وفتحت بابا للتعامل عليها واستبدالها بالعملة المحلية، وهى دولة السلفادور، والتى تشهد مظاهرات ضد قرار الحكومة الذى صدر فى سبتمبر هذا العام.
وقد يبدو أن الأمور تحسم لصالح منع العملات المشفرة عالميا، بعد انحياز الصين، ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، ضد العملة المشفرة. ولكن إليك المفاجأة، فهذا الحظر الصينى الصادر فى نهاية شهر سبتمبر هو الحظر رقم 19 منذ سنة 2013. وسبقته 18 محاولة لم تؤت ثمارها، وفى كل مرة يستمر سوق العملات المشفرة بلا توقف، حتى تتراخى القبضة الحكومية أو يجد المتعاملون وسيلة للتحايل على القرارات. ولنلاحظ أن حظر التعامل على العملات المشفرة لا يعنى تجريم امتلاكها. ولذلك المحافظ الإلكترونية التى تحتوى على أرصدة بالعملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين، ما زالت تحتفظ بقيمتها. وكما تقدم فلقد عوض السوق بعض الخسائر الناجمة عن القرار الصينى، وهو مؤشر على تعافى السوق واستيعابها الصدمة. لكن الجديد هذه المرة فى قرار الحكومة الصينية، هو اعتبار عمل الصينيين، أو مضاربتهم، فى سوق العملة المشفرة فعلا خارج القانون حتى لو كان التعامل خارج الصين. وقد يكون فى ذلك مغزى عام، حيث تسعى الحكومة لعدم استنزاف الاقتصاد الحقيقى عبر تحويل أموال حقيقية تغذى العملات المشفرة وتمدها بالتمويل اللازم. ولذلك، يتوارى المتعاملون الصينيون بعيدا عن أنظار الحكومة، ويلجئون لاستعمال تقنيات مثل «شبكة خاصة افتراضية (VPN)» للتواصل مع مواقع التداول، بدون الكشف عن أماكنهم أو العنوان الإلكترونى للجهاز المستخدم فى التعاملات. وتشير المعلومات لزيادة مطردة فى أعداد المعاملات فى أسواق للعملة المشفرة فى بلاد مثل كازخستان، وكندا، والولايات المتحدة. وقد يعنى هذا هجرة المحافظ الإلكترونية الصينية إلى الخارج بحثا عن الأسواق لتداول العملة المشفرة.
وللعلم، معظم أسواق العملات المشفرة قائمة على شبكة مفتوحة، لا تنظمها دولة، ولا تسيطر عليها جهة واحدة، ولكنها منظمات مفتوحة العضوية، ويساهم فيها شركات، وأفراد، لكن لا يملكها أحد بعينه. وهذه الخاصية سلاح ذو حدين، فمن ناحية تخلق كيانا ماليا وهيكلا تنظيميا بعيدا عن سيطرة وتحكم الدول. بمعنى عالم مالى موازىٍ، به تدفقات نقدية، وتحويلات، وقروض، ومبيعات.. إلخ، من المعاملات المالية. ومن ناحية أخرى، هذه الكيانات التى تستعمل قواعد بيانات فى تعاملاتها، مثل قاعدة بيانات «سلسلة الكتل» أو «بلوك تشين» (Blockchain)، يمكن للحكومات استهدافها عن طريق القوانين المنظمة واستهداف المنظمات التى تديرها، مثلما حدث مع الفيسبوك والتويتر وغيره من منصات التواصل الاجتماعى. ولو قررت الحكومات فعل ذلك فإن هذه الأسواق ستخضع لقوة الدول، إلا لو كانت منظمات غير مركزية تعمل عبر عدة دول، ومن ثم تستعصى الشبكة على الملاحقة القانونية ولو إلى حين. وللعلم أيضا، لم تجرم أو تمنع أى دولة استعمال قواعد البيانات المفتوحة مثل البلوك تشين، بل بالعكس، الصين نفسها التى جرمت البيتكوين بالقانون، تريد التوسع فى استعمال قاعدة البيانات المفتوحة والاستفادة من قدرات مثل هذه القواعد، وتطوير استخدام الذكاء الاصطناعى والبناء عليه. ولذلك، قد نخلص إلى أن المسألة فى جوهرها ليست انقضاضا على العملات المشفرة كما هو متصور، ولو كان الأمر كذلك لتم استهداف قواعد البيانات المفتوحة نفسها والمنظمات المسئولة عن تشغيلها، والتى بدونها لا عملة مشفرة من الأساس. وهذا الأمر يفتح بابا لأسئلة استكشافية، ومنها لماذا يتم استهداف المنتج (العملات المشفرة) ولا يتم استهداف وسيلة التبادل (البلوك تشين)؟ لاحظ أن البلوك تشين قد يكون بديلا لنظام السويفت كود المستخدم فى التحويلات بين البنوك، لاسيما المركزية عبر العالم!