طائر «الفينيق» الكنعانى - صحافة عربية - بوابة الشروق
الإثنين 17 مارس 2025 1:10 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

طائر «الفينيق» الكنعانى

نشر فى : الأحد 16 مارس 2025 - 5:20 م | آخر تحديث : الأحد 16 مارس 2025 - 5:20 م

نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب يوسف الحسن، تناول فيه مأساة السكان الأصليين فى أمريكا الشمالية (الهنود الحمر) فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث تعرضوا للإبادة والتهجير القسرى. كما يربط الكاتب هذه المأساة التاريخية بالواقع المعاصر، مشيرًا إلى استمرار سياسات التهجير والتطهير العرقى ضد الشعب الفلسطينى، خاصة فى  غزة، ليؤكد على فكرة أن الوطن لا يُباع، وأن الشعوب المظلومة قادرة على النهوض من تحت الرماد، مثل طائر الفينيق الكنعانى… نعرض من المقال ما يلى:

فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان قد مضى على معاناة «الهنود الحمر»، سكان أمريكا الشمالية الأصليين، أكثر من قرن، مملوء بالقتل والنهب والتهجير، والانتهاكات غير الإنسانية من قبل المستوطنين الأوروبيين باعتبار أن «الهنود الحمر» عقبة أمام سيطرة المستوطنين، وهيمنتهم على الأرض وخيراتها التى تتطلب إبادة هذه القبائل الهندية، وحصر ما يتبقى منها فى محميات، ومعازل، بعيدا عن قراها وشعابها وتقاليدها وعاداتها وتراثها.

قرأت يوما قصة تروى حكاية قبيلة هندية تسمى «الغراب» طاردتها عصبة مستوطنين أوروبيين، وهجَّرتها قسرا إلى أرض أخرى مختلفة فى صفاتها وطبيعتها وثقافتها وطرز حياتها.

يقول شيخ هذه القبيلة: «ماتت ثقافة شعبى، ومنظومة قيمه، وجاء الرجل الأبيض ليحرمنا من مهن وعادات اعتدنا عليها، واستسلمنا إلى اليأس وفقدنا الرغبة فى الحياة».

مورس التطهير العرقى والإبادة فى داكوتا الجنوبية وكولورادو وجورجيا وأوهايو وغيرها، ومن نجا من القتل عاش على فتات الموائد وفى البطالة، وشاهدت بعينى قبل عقد من الزمان، فى مدينة نائية، أفرادا من أحفاد الهنود الحمر، يرقدون على الأرصفة، وفى أوضاع بؤس وإدمان، توجع القلب الإنسانى.

كما قرأت فى السنوات الأخيرة خطابا لزعيم هندى أحمر، والمسمى «سياتل» فى الشمال الغربى الباسيفيكى، أرسله إلى الرئيس الأمريكى  فى عام 1854، ويقول فيه: «إن الرئيس الأبيض الكبير يريد شراء أرضنا وقد سبق للرجل الأبيض أن أجبر آباءنا على الهجرة من أراضينا، والتوغل غربا، وأصبح الهندى اليوم موضع شفقة ورحمة، بوصفه ضحية «ركب التقدم». إن رماد آبائنا وأجدادنا مقدس، والتربة التى يرقدون تحتها طهورة ومباركة، أما أنتم أيها الرئيس، فقد ابتعدتم عن مراقد أسلافكم غير آسفين على ذلك».

ويضيف الزعيم الهندى الأحمر، والذى كان شيخا لست قبائل هندية، فى  رسالته التاريخية، ويقول:

«ما إن يجتاز أمواتكم أبواب قبورهم، ويتوغلون بعيدا خلف عالم النجوم، حتى يتوقف حبهم لأرض مولدهم، أما أمواتنا فلن يكفّوا أبدا عن استذكار العالم الجميل الذى منحهم الحياة، إنهم لا يزالون يحبون وديانه وخلجانه اللازوردية، وسيحنّون إلى لقاء ذوى القلوب من أحبائهم وأقاربهم.

أود أن أحيطكم علما بأن قبولنا بالتهجير القسرى سيكون مشروطا بعدم حرماننا من حق القيام بزيارة قبور آبائنا وأطفالنا ومحبّينا، من غير إزعاج أو مضايقة. إن كل حبة من تراب هذه الأرض مقدسة بتقدير أفراد شعبى، وإن كل جبل وواد وكل سهل، قد شهد أحداثا سعيدة أو مؤلمة، فى زمن مضى، حتى الصخور الصماء، والتى تزداد نقاء وطهارة بفعل الشمس وتنتصب بشموخ، تهتز طربا لذكرى الأحداث العظام لحياة شعبى، بل حتى ذرات التراب التى تطؤونها بأقدامكم، تتجاوب مع خطوات أقدامهم بصدق ومودة أشد من تجاوبها مع وقع أقدامكم، ذلك لأنها غنية بدماء أسلافنا، وأن مقاتلينا الأبطال الذين رحلوا بعيدا عن هذه الدنيا، والفتيات والأمهات والأطفال، الذين عاشوا على هذه الأرض، وسعدوا لفترة قصيرة فيها، سيواصلون كل مساء استقبال ظلال الأرواح الخالدة عند عودتها إلى أرض الوطن، وعندما يهلك آخر رجل من الهنود الحمر، وتصبح ذكرى قبائلى مجرد أسطورة يتداولها الرجل الأبيض، فإن سواحل الباسيفيكى  ستعج بأشباح أبناء قبائلى الموتى، وعندما يظن أحفادكم أيها الرئيس أنهم وحدهم فوق حقول هذه الأرض، وفى متاجرها وفوق شوارعها، أو فى  ممرات غاباتها الكثيفة الصامتة، لا ينبغى لهم التوهم بأنهم بمفردهم، فلا يوجد مكان على سطح هذه الأرض كُرِّس للعزلة، وعندما يخيم السكون ليلاً فى شوارع مدنكم، وتظنون أنها مهجورة، فإنها فى الواقع مملوءة بجحافل الرجال العائدين، الذين انتشروا يوما فوقها، ولا يزالون يحبون هذه الأرض الجميلة.

«سيدى الرئيس، تتعاقب القبائل الواحدة تلو الأخرى، والأمم أمة بعد أمة، مثل أمواج البحر، هذا هو نظام الطبيعة، ولعل موعد انحطاط أمتكم بعيد، ولكنه آت لا محالة».

بعد نحو مائة وسبعين عاما من رسالة الزعيم الهندى سياتل إلى الرئيس الأمريكى الأبيض، فى البيت الأبيض فى عام 1854، يعيد «مقاولون» وساسة جدد ومستوطنون غرباء وقوى أصولية إنجيلية انتهاج سياسات التطهير والإبادة و«قانون الغاب» ويلبسونها ثياب «الفرصة العقارية»، وخطاب المطوِّر العقارى المعاصر، مبشّرين شعب غزة الفلسطينى العربى  بتهجيره إلى أرض أجمل وأكثر راحة واستقرارا!

رسالة الزعيم الهندى الأحمر عرفت باسم «كلمة رثاء» أو أغنية «البجع»، التى كان البجع ينشدها قبيل موته، أما رسالة القادرين على تركيب الوطن حجرا على حجر، ومن حجر لا من كلام، فهى: «الوطن غير قابل للبيع أو الابتلاع»، وهم «طائر الفينيق الكنعانى»، الذى يقوم من تحت الرماد والركام والأوجاع. طائر هو رمز للسلام والتعايش والمحبة فى ثقافة حضارات عظيمة.

التعليقات