هى لم تتجاوز السابعة من العمر رغم أن كل ما هى وما عليها يوحى بأنها أصغر من ذلك بكثير ربما لسوء فى التغذية أو انعدام توفر الغذاء وهو الواقف قربها عند سور كورنيش البحر، هو يكاد يكبرها ببضع سنين رغم أنه الآخر قد تهالك جسده أمام قلة الأكل وساعات العمل الطويلة تحت أشعة الشمس..
• • •
وقفا عند السور بعيدا عن أعين المارة، وهم كثر ممن يبحثون عن الرشاقة عبر المشى أو الجرى أو عن «التان» أى لسعة لون الشمس على جسدهم.. لم تنطق هى بكلمة ولا حتى هو، بقيا متسمرين عند مشهد الموجة المتلاطمة بالصخور وكان الوقت يقترب من الظهيرة وهما بالطبع قد رأيا كثيرا من المراكب واليخوت التى مرت بقرب الشاطئ محملة بما هو أبعد من مخيلة طفلين كبرا على مهنة التسول فى شوارع تلك المدينة المليئة بالمتناقضات..
• • •
كان من الواضح أنهما يسرقان اللحظة أو بعضا منها وواضح أيضا أنهما حلقا بعيدا كمثل ذاك العصفور الباحث عن بقعة فى ظهيرة هذا اليوم الحار جدا.. أو ربما كانا يتخيلان كيف هو الإحساس عند الغطس فى البحر.. لمثلهما يبدو العوم فى البحر أو مجرد الجلوس بقربه حلما أو ربما شيئا من الخيال البعيد.. هى وهو ربما أخوان أو ربما أخوان أيضا فى مهنة التسول التى يتحكم فيها كثير من التجار ككل شىء آخر فى حياتهم..
• • •
وقفا ما يبدو أنه زمن طويل فى لحظة العمل، أليس ما يقومان به هو عملهما اليومى من لحظة الشروق وحتى مغيب الشمس حتى يعودا هما ليستلم آخرون وأخريات «وردية» المساء والسهرة! فى النهار يحملونهما قوارير الماء المثلج وهو ما يحلمان به كيف يكون الإحساس عندما تبيع ما تتمنى ببضعة ملاليم، ليرات أو دولارات.. وفى المساء ولزوم أجواء السمر والسهر فى الصيف يقوم آخرون فى مثل أعمارهما وأصغر ببيع الزهور مع ابتسامة ومحاولة للإقناع «والنبى تنفعنى إخواتى جوعانين فى البيت» أو «خذ وردة لوردتك»..
• • •
فجأة يقفز هو، بالتأكيد له اسم ولكنه ليس ما يصرح به، ويردد عليها «يا الله لازم نرجع للشغل» نعم هما تعلما أن التسول شغل وخاصة فى المواسم والأعياد وما هو أفضل من موسم الصيف حيث الإجازات وأوقات للبحر والمرح والرقص والموسيقى.. هذا لكل البشر إلا هم أولئك الأطفال الذين حولهم كثير من التجار وبعض الأهل إلى أدوات للكسب الرخيص حتى لو كان ذلك على حساب صحتهم وتعليمهم وبالتأكيد كرامتهم ونفسياتهم..
• • •
جرها من يدها وهى متسمرة كأنها غارقة فى همس مع الموجة القريبة التى سكنت تحت رجلها وهى تحلم بأن تلامس ماءها دون أن تقدر.. بعد إصراره وصريخه، تحركت لتجرى خلفه ويعودا إلى ذاك التقاطع تحت أشعة الشمس التى تركت بصماتها على وجوههم وأجسادهم الصغيرة فوق خربشات «الخناقات» الكثيرة بينهما إما منافسة على زبون أو لتقاسم ورقة مالية صغيرة أو حتى لتقاسم قطعة من السندوتش أو الشوكولاتة التى «تكرمت» أو تكرم أحدهم بإعطائهما بقاياها قبل أن يرموها فى الزبالة..
• • •
بقيت هى ملقية نظراتها نحو البحر وكأنها تودع ذاك العصفور الذى احتمى من أشعة الشمس بظلها أو الموجة التى تصورت هى، ربما بسذاجتها أو طيبتها، أنها تبعد لتعود مرة ومرات من أجلها أو لتناديها لتقفز من فوق ذاك الحاجز فتغطس فى ملح ماء البحر وبرودته.. بقيت عيناها الواسعتان، بحدقتهما بنية اللون أو ربما هى كستنائية، تحدقان نحو الأفق حتى ليخيل للمراقب وكأنها مسحورة بشىء أو أمر ما.. اختفت بعد لحظات هى وهو بين العربات وبياعة الذرة والفول النابت والفوشار والبالونات بلون قوس القزح.. كلها مغريات لطفلة وطفل عند كورنيش البحر فى صيف المدينة المسحورة..
كاتبة بحرينية