كان حنظلة قد أدار ظهره لى منذ أن رحل ناجى العلى. قبلها كان ناجى يدفعه لأن ينظر لى فى عينى أحيانا ونتحدث بصمت مطبق.. فى سكون وحضور الألم المزمن، وبعض من السخرية، وكثير من الحب.. وقف كما هو فوق طاولته، وفى كل مكان أرحل أحمله معى، ربما ليس فى شكله المادى بل معنويا وفى قلبى منذ هناك.. منذ أن جلست مع ناجى ليالى طويلة فى برد لندن عاصمة الضباب نتحدث عن حالنا وما وصلنا إليه.. ناجى كان أول من كشفهم كلهم. بل كلنا حكام وملوك ورؤساء وجمهوريات وسوريين. وثورجيين ومثقفين ومناضلين وكثيرا من حملة الأختام.. نتحدث حتى يعجز أو يتوقف الكلام، ثم نضحك ربما من شر البلية.. ربما لأن ناجى يتقن فن السخرية لحد الألم!
كان حنظلة الذى عاد فأدار ظهره بعد اغتيال ابيه ناجى، عاد مؤخرا فأدار وجهه نحوى، ربما من كثرة عناوين نشرات الأخبار والصحف التى تحمل الخوف المعلب فى واشنطن. خرج خبراء الدين وتجار التراث من مخابئهم، نفضوا الغبار والتراب المتراكم منذ سنين، وأسرفوا فى التحليل.. من أين أتى قطع الرءوس وتحريم وتجريم هذا وذاك؟.
•••
تحرك جزء من ذاكرتك الضعيفة أصلا، جزء لا تزال صوره واضحة منذ سنين عندما بدأت فتاوى التكفير والتحريم والتحليل وخلط الجهل بالدين والخوف بالتخلف. عندما بدأ الدجالون فى نشر أن صوتها حرام فسكتم وأطعتم وعلى خجل كررتم ذلك! ثم قالوا الموسيقى حرام، وتحية المسيحيين وتهنئتهم فى أعيادهم ومشاركة الشيعة أحزانهم وتهنئة غير المتدينين ــ هم يسمونهم كفرة أو علمانيين أو ملحدين كلها تعابير تكرر دون فهم منهم ولا من يتبعونهم ــ حرام حرام، ودخول المنزل برجلك الشمال وحتى تحية صباح الخير أو مساء الخير بدلا من السلام عليكم ودعاء الركوب ودعاء السفر، ثم توسعت القائمة فعمل المرأة هو الآخر حرام، ثم حتى خروجها من المنزل إلا بصحبة محرم أو من أجل أمر ضرورى.
كثرت قوائمهم وتخاذلت النخبة الثقافية أو خافت أو ربما الاثنان معا.. ووقف باقى المسلمين منهم متوجسين، خائفين، أو ربما انغمسوا أكثر فى غربتهم، أو عادوا فارتموا فى أحضان الجهل المعمم بالدين.
جاءتنى رسائله متقطعة رغم أن شبكة الاتصال لم تقطع فيما الرقاب والرءوس تقطع علنا وترسل صورها عبر الشبكة عجبى! جاءت الرسالة من دير الزور بأنهم حرموا كل شىء لم يتبقَ إلا الهواء. وأرسل لى صوره على الواتس آب من أرض معركة «الجاهلية» لشاب لا يتجاوز الثامنة عشرة مصلوب والتهمة؟ أنه من أنصار النظام أو لأنه غير مسلم لأنه مسيحى أو لأنه ضبط «متلبسا» بجريمة التدخين أو عدم الالتزام بالصلاة!
•••
من أين جاءوا؟ يكرر السؤال حتى أولئك الذين يعرفون حتما كل شىء فأقمارهم تراقب حتى أصغر تفاصيل الحياة. نفس هؤلاء لا يعرفون لماذا تحول مغنى الراب الذى ولد وترعرع على أطراف مدنهم الحداثية ودولتهم غير الدينية، كيف يملك كل هذا العنف الدموى؟ هم أنفسهم من برادفورد وحتى أزقة باريس وضواحيها وشوارع ليون وحوارى روما وبلجيكا وشواطئ استراليا هم الآخرون يقفون أمام عدسات الكاميرات حاملين رءوس «أعداء الله الكفرة!».
من أين جاءوا؟ يعود السؤال وتكرر الإجابة الفجة من قبل «كتبة» التراث وحاملى مصابيح الضوء المعلقة برقاب السلطة.. ألم ينتبهوا عندما كانت فتاوى التحريم تنتشر بينهم ومن جوامعهم ومدنهم وعواصمهم.. عندما حولوا الدين إلى أداة فى يد السلطة وسيف مسلط على رقاب النساء قبل الرجال حتى أصبحن هن جميعا خيم سوداء متحركة ولم يشفع لهن ذلك فلم يتوقف التحرش بهن أيضا!
ألم ينتبهوا وهم يضعون «أيقونات» من جهلة ويفتحوا محطات تلفازاتهم الرسمية قبل الخاصة ــ رغم أنهم يصبون جميعا فى نفس مجرى النهر ــ لأنصاف متعلمين وكثير من الجهلة المدعين، الذين لا يفقهون لا فى الدين ولا فى غيره، ولا يعرفون تاريخ أمتهم وتاريخ شعوب الكون.
•••
يعود السؤال الذى يبدو مفرطا فى السذاجة واحتقار ذكاء كثيرين ممن حذروا مرارا منذ تحريم الموسيقى حتى صوت المرأة صوت كل امرأة حتى صوت فيروز الذى كان يهبط بردا وسلام على مستمعيه مسلمين ومسيحيين وأزديين وعلمانيين.. هى التى وحدتهم جميعا.. ينزل صوتها فيحيى المحبة ويسكت أصواتهم الغليظة، ونخشع عند سماعها كما الخشوع فى دور العبادة بل ربما أكثر