هى الآن.. الراهن أو اللحظة.. فهل تقبض عليها بكلتا يديك.. تمسكها حتى لا ترحل مع أول ريح عاتية.. تمسك بها حتى لا تفلت.. تقتنصها. يقولون.. كما يكررون «إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكونا».. هى السعادة تلك التى نتحدث عنها دوما.. نسعى إليها.. نلهث خلفها ثم فجأة لا نحصد سوى السراب... ربما لأننا كلما اطلنا التفكير فيها وحولها وعنها، كلما ابتعدت عنا.. أو لأنها هنا والآن ونحن ننظر فى الأفق البعيد فى الهناك توق لها.. هكذا تخبرنا الدراسة الجديدة لجامعة هارفارد بأننا نقضى أكثر وقتنا فى التفكير فى السعادة وتحقيقها أو حتى استعادة بعض منها الذى رحل سريعا، فيما يزيد ذلك من تعاستنا.
هم يقولون إن السعادة هى أن تعيش اللحظة.. أن تحضن الزهرة بين يديك وتستنشقها الآن ولا تنتظر حتى تذبل فتكثر من الأسى والندم.. هى أن تتوقف قليلا عن الجرى السريع خلف بعض الملذات الآتية تصورها جنات متواصلة وانهار من العسل فتسرق الفكرة اللحظة منك تلك التى هى إذا ما رحلت فلن تعود أبدا.. أن تستهلك ثوانى أيامك الطويلة تنبش بين الماضى لترسم صورة للقادم وتحلم فيرحل الحلم وتبقى أنت فى تفكيرك.. السعادة هى تلك التى ترتجف لها ثناياك وأنت تصغى لصوت ملائكى ينشد «أمانة عليك يا ليل طول».. بعدها تعرف أن طاقة متجددة قد تسربت من أذنيك حتى أطراف أصابعك وإعادة بناء الخلايا التى كانت قبل ذلك فى سبات وكسل.. هى أن تسرق دفء شمس الشتاء مع ثلة من الأصدقاء تعيدون الحياة إلى الحياة كما انتم بتوزيع الذكريات الجميلة وتفريغ مخزون من الانشراح والضحك المعدى، ذاك الذى إذا ما عاشه احد تداعت له سائر الجمعة بالقهقهة.
كم هى السعادة قريبة منا.. هى التى بين أيدينا فيما نحن نبحث عنها فوق جبال السماء وسهول البحار.. بعضنا يكثر من الشرود.. يقضى نصفه فى الذى كان والنصف الآخر فى الذى سيكون.. ناسيا أن العودة إلى الوراء مستحيلة والمضى سريعا أكثر استحالة فلا يوجد لحياتنا مفتاح «فاست فورود» ولا «روايند» هو شريط يدور فى حلقات مستمرة ولكنه لا يتوقف عند احداها ولا يستطيع رسم صورة دقيقة التفاصيل لما سيكون...أن تشرد اذن هو أن تزيد من لحظات الأسى لديك.. أن تطيل من الشرود هو أن تحل عليك التعاسة متربعة كحجر صنين فوق صدرك.. كلما بحثت عن سببه لا تجد لأنك منغمس فى فعل الشرود والتفكير..
السعادة هى أن تطيل المشى حول ينابيع الحياة.. تغرق عينيك فى تفاصيل الفضاء وخاصة تلك الجميلة منها.. لشجرة أو نبتة زاهرة.. أو مجرى ماء متدفق أو زراق على مد البصر أو حتى يد الخالق عندما تبدع فى رسم تفاصيل لوجوه لا يمكن إلا أن تطيل النظر فتديم فعل السعادة.. وهى أيضا أن تمدد جسدك فى فعل اللاشىء اللذيذ، تمنحه متعة أن يكون جسدا لا وعاء حاملا لقلب ومعدة ودماغ وعدد آخر كثير من الخلايا التى ترسل زخات من الألم كثيرا حتى انك حسبتها هى الجسد وهو هى!!
العلماء يقولون توقفوا عن الحياة خارج الآن المربوط فى طرفه بالأمس وعند حافته الأخرى بالغد.. أطيلوا اللحظة كما يبطئ ذاك المتلصص فى نظرته يسرق اللمحات القادمة من الزمن الجميل..
هم يعيدون الاعتبار للحظة، لا الآن التى كررتها فيروز مدركة قبل علماء النفس فى جامعة هارفارد بأنها هى مفتاح مدينة المدن تلك التى لم يدرك بعضهم انه إذا فاتت اللحظة «الآن» فقد تتحول إلى فعل ماض حزين تتدفق عليها سيول دموع شاردى الذهن أولئك الذين أطالوا التفكير فى «كان» ثم حمل شعار «سيكون» فى محاولة للهروب من الآن.
الآن الآن وليس غدا أو الأمس والاعتذار يبقى دوما لها.. هى التى تعيد الماضى فى صياغة اللحظة الحاضرة بشدة.