منذ أن نشرت الصحف الألمانية خبر استقالة زوج وزيرة الخارجية الألمانية «أنالينا بيربوك» لرعاية ابنتيهما فى ظل مهام عملها الكثيفة وأسفارها المتكررة حتى انفجرت حملة رسائل بين الجالية العربية بألمانيا ولم تتوقف إلى اليوم، وفى حين لم تكترث الرسائل لتولى سيدة شابة لا تزيد على الأربعين عاما حقيبة وزارة الخارجية للمرة الأولى فى تاريخ ألمانيا، فإن جُلّ التركيز قد انصب على استقالة زوج الوزيرة من عمله المرموق لرعاية الأطفال. الرسائل الساخرة تراوحت بين (جوزى بيفكر إنه بطل لما يغسل الطبق اللى أكل فيه!) لترد عليها أخرى (كيف راجل يغسل طبق الأكل.. هادا يجرح المقام السامى!) إلى أخرى كتبت (لماذا لا نبدأ حملة جمع أموال لاستنساخ السيد «دانييل هولفلايش»).
وحملة الاستنساخ على طرافتها إنما تعكس إحباطا دفينا وشعورا عميقا بالظلم تستشعره النساء العربيات فى الدول الأوروبية. أسباب كثيرة تدفعهن للغيرة من الوزيرة الألمانية، فالعربيات الوافدات حديثا إثر الحرب يعشن فى علاقات زوجية تبعد مئات الأعوام عن تلك العلاقة الزوجية الألمانية، فأغلب العربيات ما زلن يعشن فى ظل النمط التقليدى لعلاقات الزواج حيث تُحمّل النساء مسئولية تدبير شئون الأسرة والأطفال كافة، كما أن عليهن اكتشاف الأسلوب الملائم للتعامل مع الحالة النفسية للزوج بل وعلاجه إن أمكن من جميع مشكلاته التاريخية والآنية وتلك المتعلقة بالغربة والفقد والخوف من المستقبل ومن الغرب المنفلت منحل التقاليد.
سقطت الغربة على أكتاف النساء المحملات بمسئوليات أسرية متعددة تعاظم ثِقلها إثر فقد بوصلة الحياة، ليبدأن كما الوليد يتحسسن خطواتهن الأولى نحو اكتشاف الطرقات والأسواق والواقع الجديد المملوء بطلاسم مفتاحها مُخبأ فى خزانة اللغة، وهنا تفاجأ الزوجات بضرورة عودتهن مرة أخرى إلى صفوف الدرس لتعلم الأبجدية. استطاعت الشابات الوافدات تخطى حاجز اللغة بيسر فى أغلب الأحوال، لكن التحدى الفعلى غالبا ما يواجه النساء الأكبر سنا اللاتى لا يملكن رفاهية الوقت لتعلم لغة جديدة ولا تحتمل ذاكرتهن المزيد من التفاصيل بعدما ابتلعت الحرب كل الذاكرة ولم تترك مساحة خالية للأيام القادمة حيث تعيش النساء بأجسادهن فى قلب أوروبا وعقولهن وقلوبهن هناك معلقة على باب الدار الذى أغلق خلفهن يوم الرحيل.
العربيات الوافدات يبحثن عن مدارس تُبقى اللغة العربية حية فى عقول وقلوب أبنائهن وبناتهن، يبحثن عن دواء يوقظ الزوج الذى تعثر فى الاكتئاب واليأس أو سقط فى العنف تنفيسا معتادا لإحباطاته، تواجهن ثقافة جديدة غريبة مستهجنة أحيانا ولا يتجرأن على استنكارها علنا، يواجهن تمييزا ورفضا وتنمرا ولا يملكن إلا الاستمرار وتكرار المحاولة تلو الأخرى ليتقبل الجيران الجارة العربية أو ليبتسم الزبائن بوجه البائعة المحجبة أو ليسمح التلاميذ للمعلمة ذات اللكنة بتدريس الرياضيات بدون تعليقات مؤذية. تواجه النساء العربيات الوافدات تحديات عصية على الرصد ليست فقط للتكيف مع الواقع الجديد بل أيضا لتصديق أن الوطن الكبير مترامى الأطراف بات صورا تظهر على شاشة التلفاز، أو صوتا يبعثه الهاتف، أو حلما يهل على النائمين فيوقظ فيهم الوجع. تحمل النساء نفس أوجاع الرجال لكنهن لا يملكن رفاهية التعبير عنها ولا التوقف لتضميد جروح الحرب وما سرقته من أعمارهن واستقرارهن.
على نفس الأرض تعيش النساء العربيات لكن المسافة بينهن وبين الوزيرة الألمانية والشقيقات الأوروبيات واسعة سعة القوانين والسياسات الأوروبية التى تتطور يوما بعد يوم لخفض الهوة بين النساء والرجال، وقد أقرت ألمانيا فى عام 2007 قانون إجازة الأبوة والأمومة بهدف تشجيع الآباء على لعب دور أكبر فى تنشئة الأبناء والبنات، ويسمح القانون للأب بالحصول على إجازة أبوة لرعاية طفلته / طفله الوليد لمدة قد تصل إلى 14 شهرا. ويمكن للمراقب أن يرى فى كل شارع أبا يسير بمفرده حاملا وليدا نائما على صدره فى مشهد صار طبيعيا على المواطن الأوروبى لكنه ما زال يثير الأسئلة لدى الوافدين العرب، تتأمل أغلب النساء الأمر مرددة الدعوات لنصل ليوم يدرك فيه الرجال أهمية العلاقات الأسرية المتوازنة التى يشارك فيها كلا الأبوين فى رعاية أطفاله بدون تسلط أو تقسيم قاسٍ للأدوار يرفع أحدهم فى مرتبة القائد ويضع الآخرين بما فيهم الأم فى مصاف الرعية. يثير تقاسم الأعباء المنزلية حنق بعض الرجال العرب ويتحدى داخلهم ميراث العادات والتقاليد التى تُثمن من مكانة الرجل وتنأى به عن تلك المهام التى يرونها غير لائقة بالرجولة، وبينما انقطع الربط بين الأعمال المنزلية والرجولة فى الثقافة الغربية فما زالت عُرى تلك الرابطة وثيقة بدرجة تعوق أغلب الرجال عن تجربة نمط الزوج الشريك عِوَضا عن الزوج الرئيس.
ورغم ذلك تظهر من آن لآخر نماذج مبهرة لرجال عرب تحملوا بكفاءة بالغة الأعباء المنزلية وساهموا بفاعلية فى إتاحة الفرصة لزوجاتهم للنمو التعليمى أو المهنى أو الفنى، ونشرت الصحف مؤخرا قصة آلاء السورية التى تمكنت برغم أنها أم لأربعة فتيات صغار من إتقان اللغة الألمانية والنجاح فى استكمال دراستها التى توقفت قبل رحيلها عن سوريا، تقول آلاء (بدون دعم ومساندة زوجى ورعايته لبناتنا ما تمكنت من تخطى عقبات اللغة والعمل وبناء حياة جديدة)، يبعث زوج آلاء الأمل فى نفوس العربيات بأن السنوات القادمة قد تحمل لهن تغييرا، هذا ما تقوله الصيدلية الألمانية المخضرمة التى اعترفت أن السنوات التى تلت الحرب العالمية الثانية لم تغير فقط من موقع ألمانيا سياسيا واقتصاديا بل إنها غيرت أيضا من مكانة النساء وتؤكد متفائلة بأن هذا ما سيحدث للنساء السوريات اللاتى لن يكن بحاجة لاستنساخ زوج الوزيرة الألمانية.
باحثة بمركز جنيف للدراسات