أزمة دبي : دروس لا تنتهي؟ - علي عبدالعزيز سليمان - بوابة الشروق
الثلاثاء 11 مارس 2025 12:21 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أزمة دبي : دروس لا تنتهي؟

نشر فى : الخميس 17 ديسمبر 2009 - 2:16 م | آخر تحديث : الخميس 17 ديسمبر 2009 - 2:16 م

 سبَّب قرار إحدى الشركات الرائدة فى دبى تأجيل سداد ديونها الخارجية صدمة للأسواق المالية العالمية، وأعلن البعض نهاية مغامرة تجربة دبى التى كانت بحق من أكثر التجارب التنمية فى المنطقة طموحا، ولفترة، أكثرها بريقا. فما الذى حدث؟ وهل ما حدث هو نتيجة للأزمة العالمية وحدها، أم أن هناك أسبابا خاصة بتجربة دبى نفسها؟ وما هى الدروس المستفادة لنا ولباقى دول المنطقة؟

حققت دبى فى العشرين عاما الأخيرة نموا هائلا فى الناتج المحلى الإجمالى وفى نصيب الفرد من الناتج خلال سنوات قليلة. وطورت بنيتها الأساسية، ونظمها الإدارية والقانونية. وحققت تيسيرا كبيرا فى نظم العمل، وجذبت المستثمرين والشركات الأجنبية والسائحين. واختارت دبى أن ترتبط بالسوق العالمية والثقافة والنمط الاستهلاكى الغربى. بل وسعت لأن تكون مدينة عالمية مفتوحة ليس فقط فى تنوع الجنسيات ولكن أيضا بالترحيب بكل آليات العمل الاقتصادى الدولى، وبحرية العمل الاقتصادى فى أكثر صوره انطلاقا، فلا نقابات عمال، ولا ضرائب على الدخل، ولا قيود على التجارة.

وسرعان ما سمحت الإمارة بنشوء مجتمع ثقافى عالمى تتعدد فيه اللغات والمدارس، وحتى النظم القانونية الحاكمة للأعمال. ولقد نمت تجارة دبى الخارجية بمعدل 26٪ خلال السنوات 2001 ـ 2006، ووصلت تجارتها غير النفطية فى ذلك العام الأخيرة إلى 523 بليون درهم، أو 142 بليون دولار أمريكى متخطية بذلك تجارة المملكة العربية السعودية غير النفطية. وتمثل التجارة غير النفطية 80٪ من تجارة دبى الخارجى.

وهكذا أصبحت دبى مجالا للحسد والتقليد ليس فقط من الدول المحيطة بل على مستوى العالم النامى كله. وأصبح السفر إلى دبى بالنسبة للعمال من الدول المجاورة يعتبر تذكرة للحصول على الحياة الكريمة والأجور المرتفعة. وهناك نكتة يحكيها أهل دبى بجزل توضح تأثير مدينة دبى على الثقافة الشعبية: وهى عن العامل الهندى الذى توفى وصعد إلى المساء، ونتيجة لأنه كان مخلصا فى عمله وبارا بوالديه فقد أخبرته الملائكة أن مآله الجنة. ولقد هز الهندى رأسه معترضا، وتسأل: «أليس هناك دبى؟».

وبينما تحتفل دبى بإنجازاتها الكبيرة، وبعد أن خطفت الأضواء بصفقاتها الملحمية سواء فى شراء أسطول طيران يسيل له اللعاب، أو فى تنظيم احتفاليات عالمية، أو فى الاستحواذ على مشروعات عالمية براقة، وإذ هى تستعد لإنهاء أعلى برج فى العالم، وافتتاح المزيد من المنتجعات «الأسطورية» صدمتها بين ليلة وضحاها رياح الأزمة العالمية. وانقلبت الأحوال فى أسابيع قليلة، فإذا المشروعات الضخمة تتوقف، وإذا الأبراج العالية تنهى من بناها، واختفت من أسواقها جموع المشترين.

ومع خروج أعداد كبيرة من الأجانب الذين فقدوا وظائفهم، انخفضت قيم العقارات، فى الأحياء «السوبر» (مثل جميرة وجزر النخلة)، بنسبة قد تصل إلى 60٪ وبحوالى النصف فى مناطق أخرى. هذا، ولقد توقفت نصف مشروعات البناء، ومن ضمنها بعض المشروعات ذائعة الصيت مثل مشروع منتجع «دونالد ترامب» Trump الذى كان من المقدر له أن يكون علامة فى الفخامة، وأن يكلف 100 مليار دولار، «وهو مبلغ من المال يكفى لحل مشكلة الصومال والجوع فى القارة الأفريقية معا».

ولقد حاولت الحكومة الاتحادية فى الإمارات المحافظة على مسيرة بعض هذه المشروعات، وتم إدماج بعض شركات العقار، مع ذلك فإن أيام الإنفاق بلا حساب والجرى وراء أحلام مناطحة السحاب قد انتهت.

وبينما يعزى الكثيرون الانهيار الكبير فى اقتصاد دبى إلى الإسراف فى الاقتراض العقارى على نسق ما حدث فى أزمة المديونيات العقارية فى الولايات المتحدة، إلا أننا نعتقد أن هناك أسبابا أكثر عمقا لانهيار تجربة دبى. ويمكن أن نلخصها فى أربعة أسباب رئيسية ومترابطة.

لعل السبب الأول لأزمة دبى يرجع إلى نموذج التنمية نفسه، ونعتقد أن التفكير التجارى قد طغى على التفكير التنموى، مما جعل عناصر التنمية غير كاملة وجعلها تنمية هشة معرضة بقوة للتأثر بأى صدمات خارجية.

ذلك أن القائمين على الأمور رأوا أن الانفتاح على الغرب واستقبال رجال الأعمال والمستثمرين والعمال من كل حدب وصوب سوف يزيد الطلب على الخدمات المحلية من إسكان ومدارس ومطاعم ومستشفيات، وفى كل هذا فوائد وأرباح. ونتج عن هذه السياسة الطموح أن أصبح عدد الأجانب فى الإمارة حوالى 1.4 مليون فرد من حوالى 150 جنسية، منهم ما يقرب من 100 ألف بريطانى وحوالى 700 ألف هندى مقابل المواطنين الذى يقدر عددهم بـ350 ألف مواطن أى حوالى 20٪ من عدد السكان. ويقدر عدد المنازل التى يحتلها الأجانب بـ62٪ من إجمالى المعروض. وهى نسبة عالية وإن كانت دون نسبة الأجانب لمجموعة السكان، ويرجع ذلك إلى سكنى بعض العمال الأجانب فى معسكرات عمل أو فى ثكنات خاصة بهم.

مع ذلك نسى المخططون لمدينة دبى أن لكل مدينة عصرية مركزا روحيا وثقافيا مرتبطا بتاريخها وحياة أبنائها. فسكان لندن لهم متاحفهم وكنائسهم ومزاراتهم، وسكان دمشق لهم سوق الحميدية، والجامع الأموى ومتنزهات جبل قاسيون. أما سكان دبى فقد انسحبوا من الساحة وسمحوا بهدم وإزالة المبانى القديمة والتراثية بفتح المجال للجديد. ولم يتبق للمدينة سوى المراكز التجارية والفنادق والمقاهى المكيفة. وهى تسهيلات قد تبهر الزائر العابر ولكنها لا تصنع مدينة مستقرة البنيان.

من ناحية أخرى بدأت سياسة الاعتماد على العمال الأجانب الذين يعيشون فى معسكرات عمل ويحصلون على أجور متدنية تظهر مساوئها مع تكرار الاعتصام والإضراب فى مواقع العمل، وزيادة انتقادات الهيئات الدولية.

وبالمقابل أظهر الاعتماد على الأجانب فى القطاعات الحديثة مثل البنوك وشركات الاستثمار عيوبا أخرى. ذلك أنه حتى باقتراض حسن النية فإنه من المنطقى أن يفكر المستشارون الأجانب فى استثمارات فى بلدانهم الأصلية، وقد لا تتناسب مع المناخ الاجتماعى والثقافى للإمارات أو أولويات التنمية العربية. وأظهرت الأزمة الأخيرة أمثلة صارخة لهذه المجازفات، حيث قامت مجموعة «دبى ورلد» ـ التى تطلب إعادة جدولة ديونها ـ بالمساهمة فى نوادى قمار فى لاس فيجاس، واشترت مجموعة أخرى متحف الشمع فى لندن، وساهمت ثالثة فى تطوير سيارات فارهة.

السبب الثانى هو ببساطة أن دبى قد تعدت فى برنامجها الإنمائى ليس فقط حدود دخلها وما يتوافر لها من مدخرات محلية، وتوسعت فى الاقتراض من البنوك العالمية والاعتماد على مدخرات الأجانب، ولكن الأهم هو أن برنامج التنمية فى دبى تضمن تحديا كبيرا لحدود الموارد الطبيعية ومحددات المناخ والجغرافيا.

ذلك أن بعض الأفكار المعمارية التى تبنتها دبى فى فورة حماسها للتجريب والاختلاف كانت مجافية لمتطلبات البيئة وأصول التخطيط العمرانى. ولعل مشروعات مجموعة «النخيل»، التى كان تأجيلها لسداد أقساط ديون تبلغ فى مجموعها حوالى 26 مليون دولار هو سبب الصدمة المالية الأخيرة، هى الأكثر جرأة وتطرفا. فمشروع النخلة الذى اعتمد على ردم البحر تكلف بلايين الدولارات فى إيجاد منتجعات شاطئية فى منطقة حارة ورطبة لا تشجع السكنى إلا لأشهر قليلة فى السنة. وأدى ردم البحر إلى زيادة النحر فى مناطق أخرى من الشاطئ، وزيادة تكلفة الصيانة للجزر الصناعية نفسها. كذلك قد يتساءل البعض ما معنى ردم البحر بينما الصحراء المترامية خلف مدينة دبى متاحة بعشر التكلفة. وما جدوى هذه المبانى العالية فى صحراء مترامية. وهى تحتاج كميات هائلة من الطاقة والمياه للتبريد والتكييف.

أما السبب الثالث فيرجع إلى ما نسميه فى الاقتصاد «قانون الغلة المتناقصة». فبينما قد يكون من المفيد أو المربح بناء منتجع سياحى أو مركز تجارى فى منطقة معينة، فإن بناء عشرة مراكز فى نفس المنطقة قد يؤدى إلى ارتفاع تكلفة البناء للمنافسة على الموارد، وزيادة تكاليف المرافق. وسرعان ما بدأت مشكلات الزحام تضغط بشدة على مدينة السيارات هذه. وزادت رحلة الذهاب للعمل من دقائق معدودة إلى ساعات كل يوم. وبدأ الزوار يتبرمون من ازدحام الطرق وقلة المواصلات العامة، خصوصا فى أوقات الذروة وأثناء المعارضة الدولية. واضطرت الإمارات إلى إنفاق المليارات فى إضافة طرق سريعة وكبارى إلى جانب إنشاء مترو لنقل الركاب طوله 55كم.

ومن ناحية أخرى أدى ارتفاع تكاليف تحلية مياه البحر إلى إعادة النظر فى بعض المشروعات التظاهرية مثل إنشاء ملاعب للجولف، وبساتين فى الصحراء.

أما السبب الرابع، فهو انخفاض الميزة التنافسية لدبى بصورة كبيرة فى السنوات العشر الأخيرة.

ذلك أن الطلب على السكنى فى دبى كان مرتبطا بتوافر التمويل العقارى الرخيص من جهة، واستمرار عوامل الطرد فى دول الجوار من جهة أخرى. مع ذلك سرعان ما هبت رياح الانفتاح على كل دول الجوار، وخطت بعض المراكز المالية الأخرى فى الخليج مثل الدوحة، والبحرين، وحتى الكويت والسعودية خطوات مشابهة فى التنمية العقارية وتطوير أسواق المال. وبدأت دبى تعانى من منافسة جاراتها الأكبر التى يتوافر لها موارد مالية طائلة، ورغبة أكبر فى التحديث والتطوير. ومن ناحية أخرى بدأ الأجانب خصوصا مواطنى شبه القارة الهندية يطالبون بحقوق وامتيازات لم تكن الإمارة مستعدة لتقديمها، وانتشرت الإضرابات العمالية وتوقف العمل بسببها فى بعض مواقع البناء.

وهكذا لا تخلو تجربة دبى من الدروس. وبينما أثبتت أنه من الممكن تحدى الصحراء وقلة الموارد لبناء مركز دولى للمال والأعمال والترفيه، وأكدت قدرة المدير العربى على قيادة تجربة عالمية، وأعطت أملا للدول العربية الأخرى فى تحقيق معدلات نمو قياسية ناطحت تلك التى حققتها الصين فى عنفوانها، إلا أنها بينت مدى تعقيد العملية الإنمائية، وأنها تحتاج عناصر متكاملة منها توافر عمالة وطنية ملتزمة، وأسواق محلية مضمونة، وثقافة وطنية متماسكة.

مع ذلك فلم يكن هذا النجاح بدون تكلفة. ولم تكن التكلفة فى التأثير السلبى على التراث، والبيئة الطبيعية والاجتماعية فحسب، ولكن أيضا ظهر أن هناك عناصر من التجربة جعلت دبى تتأثر أكثر من غيرها بالأزمة العالمية.

ولقد حاولت دبى أن تكون مرفئا للأجانب وسمحت لهم بالإقامة مدى الحياة. مع ذلك فإن نسبة كبيرة من العقارات التى اشتراها الأجانب كانت للمضاربة وليس للإقامة، وعلى ذلك تعرض القطاع لتقلبات عنيفة فى الصعود والهبوط. ومن ناحية أخرى، كان من سوء التخطيط الافتراضى أن الزيادة الكبيرة فى سكان دبى ستكون فى اتجاه واحد، صاعدا. فمع استقرار الأوضاع فى بعض الدول المجاورة، مثل العراق، يكون من المتوقع حدوث ردة فى عدد المقيمين من هذه الجنسية. كذلك فى حالة حدوث اضطرابات فى المنطقة أو فى الأزمة المالية الحالية حدثت هجرة عكسية من الإمارات سواء من العاملين أو من أصحاب الأعمال الذين أقفلوا أعمالهم. وهناك من يقول إن سكان الإمارة قد انحفضوا بمعدل 8٪ نتيجة للأزمة المالية الأخيرة فى صيف 2008.

كذلك أوضحت التجربة أن البيئة الصحراوية لها محدداتها، ويمثل نقص المياه وارتفاع تكلفة التبريد والتكييف تحد من قدرة المدينة على التوسع ونوع الأنشطة التى يمكن القيام بها بالمنافسة مع الأماكن الأخرى فى العالم.

من ناحية أخرى فإن الإسراف فى السماح للأجانب باللعب فى ملعب دبى قد أفسد «الطبخة»، ذلك أن المجتمع فقد عناصر قوته الذاتية مقابل اقتراض نموذج حياتى آخر أقل ثباتا وديمومة. والغريب أن الصحف الغربية كانت أول من بدأ فى نقد تجربة دبى، وجعل هذا الهجوم بعض أهل دبى يشعرون بالخيانة بعد أن أخذوا خطوات كبيرة فى الانفتاح على العالم والتأقلم مع متطلبات العولمة.

وهكذا تثير تجربة دبى الكثير من المشاعر المتضاربة بعضها يثير الإعجاب وبعضها يستوجب النقد. وفى كل الأحوال تؤكد التجربة أن يكون هدف التنمية الأول هو المواطن، وليس المهم هو ما نحققه من زيادة فى الناتج المحلى الإجمالى، بل المهم أن نقيم التكلفة الاجتماعية لهذا النمو، وأن نعى دوما كيف نستطيع أن نحافظ على هذه التنمية بشكل مستدام.

والله الموفق

علي عبدالعزيز سليمان عضو الجمعية التاريخية المصرية
التعليقات