ما أن يبدأ حتى تتساقط كثيرا من أوهامنا وتصوراتنا عن أنفسنا إذا ما أردنا أن نقرأ أعمق من ما يدور ويكتب من مقتطفات هنا وهناك. فى البدء يسقط مفهوم الشعب المؤمن حقا عندما يتحول الإيمان إلى شكل من أشكال التفاصيل الشكلية أو الطقوس اليومية فقط التى يؤديها الكثيرون والكثيرات ربما بدافع تصورهم الناقص عن الإيمان أو ربما بدافع الخوف من «جهنم».
***
ومن ثم يسقط مفهوم المجتمعات المتماسكة فها هى الجمعيات الأهلية ذات الخمس نجوم تقوم بالتسول العلنى على شاشات المحطات عابرة الحدود واللغات.. كل على طريقته ومن باب «كسر الخواطر» واللعب على المشاعر مما يعرى كيفية عمل هذه الجمعيات وفهمها لدورها فى دعم مجتمعات أهلكها الجهل والفقر.
***
وبعدها تتضح تدريجيا ازدواجية معايير هذه المجتمعات وقلة فهمها للدين رغم أن المساجد أكثر وفرة من المستوصفات والمدارس والمستشفيات ولا ننسى المحطات الدينية التى زحمت الفضاء ولم تثبت أى دراسة علمية بأنها ساهمت فعلا فى توفير الوعى الحقيقى بمبادئ الدين وليس بالمزايدة فى المظاهر وكيف تلبس وبأى رجل تدخل المنزل حتى انغمس بعضهم فى التحدث عن حياة الناس الأكثر خصوصية وحميمية كما المحطات الإباحية. وصل مرض التمسك بالقشور إلى الدين وأصبحت مجتمعاتنا الأكثر تمسكا بما تتصور أنه هو الدين أو هو الحضارة أو هو الثقافة أو هو العلم أو حتى هو الإبداع!
***
ما يسقط فى كل عام ويفضح مجتمعاتنا أو يفضحنا هو ضحالة أو كسل المبدعين عندنا فهم إما ارتضوا أن يكتبوا ما يملى عليهم من أصحاب المحطات أو المسيطرين عليها، وإما استسهلوا تقليد المسلسلات الهوليودية أو البوليودية أو التركية وكأن حياتنا اليومية ليست حاشدة بالكثير مما يستحق الكتابة وتدوينه فى شكل درامى أو أن يتحول إلى مادة خصبة للإبداع.. فى كل رمضان تكشف المسلسلات الرمضانية ــ والتى نشاهدها أحيانا بفعل الفضول أو البحث عن جديد أو تكذيب المؤكد ــ كم فقراء نحن فى الإبداع وإنتاج الأعمال الفنية بعد أن ارتضينا أن نكون على آخر سلم العلماء والباحثين والباحثات.
***
مسلسلات كثيرها لا يقترب من الواقع المعاش فى أى بلد عربى أو أنه الواقع الذى «يبهر» بمعالجات كلها خارجية لا تتماشى مع ما يعيشه ناسنا. وقد نغض الطرف عن قلة الإبداع مثل أن يأخذ مسلسل بكامله عن مسلسل أمريكى ويسقط على واقع حى شعبى أو عشوائى فى إحدى مدننا.. قد لا نتوقف عند تعريب الأمريكى باللغة فقط والشخصيات والأسماء، ولكن ماذا عن الأخطاء وليس كلها تاريخيا بل كثير منها أخطاء من أسس العمل الدرامى وهى فى بعض الأحيان مضحكة حد الحزن من ما وصل له حال «الاستسهال والاستخفاف» بالمواطنة والمواطن الذى تعود على أن تقوم حكومته بذلك ولكن ليس محطات التلفزة التى يدفع هو فى الكثير من الأحيان ثمن عيشها وبقائها وإلا ما الهدف من زحمة الإعلانات المزعجة؟
***
أما البرامج الرمضانية الباهظة التكلفة فبمجملها تعتمد على التسطيح إن لم نقل التسفيه والإفراط فى الإغراءات المالية و«الذهب» وإلا فلماذا يشارك فى مثل هذه البرامج هذا الكم من ما يسمون «النخبة» من الفنانين والفنانات وآخرين وأخريات لا يجدون حرجا فى التحول إلى مادة للفكاهة والضحك الرخيص جدا. فيما كانت برامج رمضان فى ذاك الزمن الذى يبدو بعيدا جدا الآن، تحمل الكثير من المعرفة والعلم والاطلاع على تجارب الآخر وليس الانغلاق والانغماس فى التافه من الأمور واللعب على المشاعر والأحاسيس السطحية!
***
ربما هو الشهر الذى نتعرى فيه من الكثير من شعاراتنا ومقولاتنا وحتى حكينا اليومى الملىء بالأحاديث الدينية على ألسنة من هم أبعد ما يكونون عن قيم الدين وأكثرهم قربا لقشوره.. مجتمعات أغرقت فى معاناتها اليومية أو مغريات الحياة حتى أصبح خبر بناء أطول برج أو مدينة أو حتى «أكبر دكانة» يدعو لاحتفالية كبيرة فيما نستجدى من يمنحنا العلاج والدواء، ونعمل على أن نشترى المعرفة التى لا تشترى حقيقة بالمال وحده ولكن «من يفهم؟».
***
يبهرك كم نبدو مكشوفين فى نفس الشهر الذى يفترض أنه الأكثر قدرة على سترنا واقترابنا من أنفسنا ومن معنى الحياة ذاك المعنى الذى فقد فى زحمة الأحداث والمسميات والكذب والتطبيل ووصلات «الردح» التى أصبحت شرطا لأن تكون إعلاميا أو صحفيا فى صحفهم ومحطاتهم «المهنية» جدا!!