اغسلوا دماءهم الطاهرة بماء الورد كما هم غسلوا الأرض مرارا.. اغسلوا وجوه أمهاتهم الثكلى وآبائهم الحزانى بماء الزعفران.. ابحثوا طويلا عن تفاصيل الأحداث تلك الليلة المشؤومة.. تلك الليلة التى توقف العالم العربى لحظة يراقب بشديد من الرعب وتطرح الأعين قبل الألسن السؤال كما هو من شارع إلى شارع ومدينة لمدينة تنطق العربية بحرقة «ماذا حدث لثورتهم؟» كيف تحول كل ذلك الجمال إلى كثير من البشاعة.. هى البشاعة التى عشنا معها نحن جميعا ارتضينا ان تكون جارة لنا أو ظلنا.. هو الخطاب المستنكر الرافض للآخر.. هو هم ونحن.. مسلمون ومسيحيون فى العراق.. مسلمون ومسيحيون فى لبنان، سنة وشيعة فى لبنان والبحرين وغيرهما، علويون هنا إثناعشريون هناك، كل يفصل الطائفة على مقاس الدم القانى، مسلمون وأقباط فى مصر،والان وحتى تونس خلقوا لها الطائفة الجديدة.. من منكم بلا طائفة فليصنعها أو نصنعها له!! تمزقنا إلى طوائف وقبائل.. ينتشر الخطاب المغلف بورق السوليفان أو بالقطيفة.. يندس بين ثنايانا.. فيستقر هناك فى قلب الواحد منا.. لا نفطن كثيرا إلى شدة هذا الخطاب إلا فى مثل تلك اللحظات.. فى مثل تلك الليلة التى خجل فيها القمر من قبح ذاك المارد عندما خرج من قلوب البعض.. من قال إنه الطاعون فصدق.. ومن قال إنه السرطان الذى استشرى فانتشر فى جميع أجزاء الجسد فلم يكن يبالغ فى ذلك..
نحن وهم رحنا نشكل اللجان.. وننبش الأسماء خلف تلك العدسة الكاذبة الحاقدة.. اليست هى الأخرى صنيعة تلك السنوات الطويلة من الحقد والأنا والآخر؟
قبل بضعة أشهر كانت الليلة الأخيرة فى اليوم الأخير من السنة الأخيرة قبل الثورة.. وهناك أيضا كان دمهم هو ماء الأرض وملحها.. وقف الجميع حائرا. تكاثرت الأسئلة ولم يستطع أحدهم أو أحدنا أن ينطق الشهادة الحية بالإجابة كيف يدين الإنسان نفسه قبل الآخر؟ كيف يعيد السؤال لأوله؟؟ وانشغل الجميع فى البحث عن تفاصيل الوجه والذقن والثوب.. طويل هو أم قصير؟؟ هو شخص منا ام انه قادم من جزر بعيدة لا شواطئ لها ولا بحار.. جزر لا تعرف سوى الغضب الساطع على كل من هو ليس مثلى.. لا يشبهنى.. لا يأكل بنفس اليد أو يشرب نفس الشراب أو يصلى صلوات مختلفة أو حتى لا يعرف من يعبد!! هم كانوا قد أعلنوها مرارا وتكرارا.. لم يكن خطابهم فى الخفاء بل فى العلن وعلى محطات عابرة للحدود وفوق جرائد وورق كثير ومن فوق المنابر.. لم يتوقف احد أمامهم ربما لخوف أو قلة حيلة أو حتى استهزاء بقدرة من هم مثلهم.
هم أى أحمد ومحمد وإخوتهم لم يذبحوا إلا بعد أن عاد ذاك الخطاب إلى الواجهة استدعوه من سباته.. من استكانته بين الضلوع لسنوات.. عاد الصوت القادم من فوق المنبر أو من تلك الزاوية يردد نفس العبارات يطالبهم الآن وفى تلك اللحظة باختبار ما لقنه لهم على مدى سنوات تراكمات طبقة فوق الأخرى.. هم لم يعلمهم أحد ان مينا اخوهم فى الوطن والأرض وان دمه ذاك المعطر بماء النرجس هو دمهم هم أيضا.
هى ذاتها، الصورة تلو الصورة، ليست هنا فى القاهرة فقط ولا هناك قبل أكثر من ثلاثين عاما عندما اندلعت الشرارة الأولى فاحرقت سهول فى ذاك البلد الصغير الجميل عندما تحولت إلى حروب صغيرة من حى إلى آخر ومن زقاق إلى زقاق.. عندما صغرت دائرة الآخر حتى أصبح ابن عم لى أو ابن خال.. كان القتل على الهوية أو حتى الاسم المعبر عن الطائفة أو المنطقة التى تشى بهوية الآخر.. هكذا كانت الحروب تبدأ صغيرة جدا وتتسع لتصبح بمساحة جرح وطن.. هذا هو جرحنا يمتد ليساوينا جميعا فى الألم والمرض والدم.
لكن الدم لا يقبل القسمة بالسكين. لا تقتله رصاصة عمياء. هو نهر فى شرايين خلقت من نفس الجلد وجرى فى ذات الجغرافيا. الديانة إيمان وعقيدة لا هوية. وهى العلاقة بين الإنسان وربه لا بين الأخ وأخيه وابن حارته وجاره وزميله. الفتنة خدوش على الجسد تحدث فى مرحلة وهن. لكن الدم الواحد، الأرض الطيبة والداخل الدافئ.. كلها تبقى هنا، هنا فى الداخل!!