تبحث عن الماء دومًا أو عن مدينة قلبها من ماء بأشكاله المتنوعة، قد يكون بحرا أو نهرا أو بحيرة أو حتى مجرى بين أشجار النخيل فى تلك البقعة الجميلة من ضواحى مسقط.. أو عينا كانت دوما تسقى البعيد وتترك القريب! وتتذكر: «وجعلنا من الماء كل شيء حى»، وتردد:: لولا الماء لما التقى الأحبة ولم يتعانقوا فى حمايته عند شاطئ فى ليلة نصفها قمرية ونصفها بعض نور حتى تبقى خصوصيتهم بعيدة عن أعين المتطفلين.. أو عند حافة النيل حيث إنهار الحب تدفقت ولم تتوقف حتى اللحظة.. أما العيون فهى كالخرزة الزرقاء تحمى العشاق المتعانقين بعيونهم المتوارين خلف النخيل حتى لا يدركهم العسس!
***
تأتى المدينة التى يقطع أوصالها الماء بين بلدات أو ضواحى.. وتدرك أنها الأخرى لا تعرف النوم أبدا حتى تخرج الشمس من بيتها متثائبة فيختفى القمر خلف الأفق.. تردد هنا الماء وبعض التفاصيل الشبيهة بمدينة تسكن قلبك منذ الطفولة، فيتملكك إحساس بأنك تعرفها رغم اتساعها وتحولاتها وقلة زياراتك ومعرفتك إلا ببعض ألقها المرتبط بالمسرح الغنائى الرائع أو متحف المتروبوليتان.. يسرع الناس فى الخطى صباحا مهرولين لأعمالهم وفى المساء عائدين بسرعة لتناول الوجبة السريعة فى معظمها معدة مسبقا وكثيرا ما تكون معلبة وجاهزة للتسخين.. يبهت البريق الذى حملته فى حقيبة سفرك وأنت تضع كل تفصيله بتفكير معمق، تردد بعد شهر أو أكثر ستنزلق درجات الحرارة حتى تتعدى الصفر نزولا وقد يصحب ذلك تساقط للثلج فتلبس المدينة ثوبها الأبيض وهى التى لا تعرف من البياض والنور إلا قليله، حيث تحجب ناطحات السحاب الضوء وحيث الماء لا يشبه ذاك الذى تعشقه..
***
ماء أو نهر دون حياة هو، بعض جمود كسكان هذه المدينة الذين لم تعلمهم الحياة إلا فن الجرى المستمر يوما بعد يوم بعد، يوما بعد شهر وبعد سنة.. فلماذا تلك الاحتفالية بسباق الجرى السنوى ألستم تجرون طوال العام فما الجديد؟
وماذا عن هذا النهر الميت هل يوجد ماء أو نهر لا يحمل كثيرا من الحياة؟ هو الوحيد الجامد المتجمد لا انعكاسات فيه سوى للطائرات المروحية كثيرة الحركة فوقه وبعض القوارب السريعة التى تنقل الركاب من ضفة لأخرى.. لا مراكب شراعية تشبه «الفلوكة» ولا مراكب سريعة ترسل الموسيقى الشعبية الصاخبة التى كنت تنزعج منها أحيانا أو كثيرا كما كل جيل أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم.. لا أضواء مشعة فى المساءات الهادئة التى تتراقص على صفحة النيل فتخلق صورا من الجمال الشعبى المتناسق مع الطبيعة المحيطة.
***
ينبهر البعض بالنهر هنا أو انعكاساته من نوافذ ذاك المبنى الجالس منذ أكثر من سبعين عاما عند حافته.. ذاك بشبابيكه المطلة على الماء لتخفف من حدة النقاشات السياسية التى تحدد مصير العالم أحيانا وتبقى المكان الوحيد المتبقى لكل هذا الكم من البشر أن يجتمع تحت قبته شاء أم أبى.. اتفق أم اختلف.. ضعف بقى تحت سيطرة الخمسة المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية!
***
لا الماء يشبه ذاك الماء ولا الصخب حتى صياح الديك الأول يشبه ضجيج تلك المدينة الحالمة فيما الحلم والضجيج يتناقضان أحيانا! هذه مدينة انتزعت قلبها منذ زمن وبقيت هى كما هى منذ المهاجر الأول الذى حمله ذاك المركب من ضفة المحيط إلى ضفته الأخرى.. فلا ليلها يشبه ليالى المدن المتعبة فى جنوب الكون ولا نهاراتها تشبه المدن الحداثية التى طرزتها الرأسمالية بكل ما يلمع.. فحين تنزل الثلوج تتعطل المدينة كما مدننا المتعبة من الأمطار التى تحولت إلى سيول فى لمح البصر.. وحين تسير فى طرقاتها تبحث عن مسافة بين أكياس القمامة المكدسة على الأرصفة، فيما نتذمر نحن فى ضواحينا من تحول الأرصفة إلى مواقف للسيارات أو حتى انعدامها.. تستيقظ من أحلامك المتاحة بين رصيف وآخر تراقب ألا تسقط رجلك فى حفرة أو مخلفات كلابهم المدللة.. وتردد كيف لمثل هذه أن تكون مدينة أحلام البشر.. كل البشر من أول نقطة ماء حتى هذا النهر الأقل جمالا من بين الأنهر المسترخية فى أحضان المدن المنتعشة بالموسيقى والرقص والاحتفاء بالحياة..