لم تنظر فى عينيه وصافحته ببرودة شديدة وابتسامة باهتة تشبه تلك اللحظة.. استشف رأسا مدى المسافة التى أصبحت بينهم وبطريقته الذكيه جدا حول الحديث للكلام العابر، ذاك الذى يدور بين شخصين غريبين يلتقيان للمرة الأولى.. سأل عن حالها وعن وضعها فى العمل ثم عرج حتى على صحتها.. أسئلة جامدة كملامح تلك اللحظة.. لم تملك سوى أن تعيد إرسال نفس أسئلته إليه بإضافة موضوع الأولاد وأين أصبحوا فى التعليم والعمل، الأمر الذى يخشى هو سؤالها عنه وكأنه يريد أن يهرب من أن أولادها كان بإمكانهم أن يكونوا أولادهما لو ولو ولو..
***
بقت كثير من الكلمات محبوسة فى حنجرتها، كانت قد أعددت الكثير لتلك اللحظة، وبالتحديد منذ أكثر من سنتين أى المسافة التى مرت منذ لقائهم الأخير الذى لم يكن مخططا له أبدا.. سرحت بعض الشيء وهو يحاول أن يبدو وكأنه مهتم بمستقبلها الصحفى وحتى المهنى، وردد: «أستطيع مساعدتك للوصول إلى منصب أعلى من الذى أنتِ فيه».. رددت بأدب مصطنع «شكرا شكرا»، وعندما كرر العرض رفضته بنبرة حسمت وأنهت فيه هذا الطرف من المحادثة.. بدا وكأنه يبحث عن الكلمات، يناضل من أجل أن يبدو ذاك الذى كان قبل أكثر من ثلاثين عاما، عندما التقيا بمصادفة شديدة أيضا، وكان أن عمل جهده ليعرب لها عن إعجابه الشديد بكلمات، هى الأولى التى سمعتها من رجل منذ مدة طويلة.. ومنها تقطعت اللقاءات حتى إنها انقطعت بعد أن تغير موقفه من أنه منفصل عن زوجته وأنه يريد فقط أن يبقى الصلة من أجل أولاده، إلى أن جاء صوته عبر الهاتف وبعد فترة بدت طويلة وهى فى انتظار أن تسمع صوته، فأخبرها وبشكل عابر بأنه قد عاد لها أى لزوجته «من أجل الأولاد»، قال وكرر تلك الدعابة حتى صدقتها هى وتعاطفت معه لأن أطفاله قد أصيبوا بصدمة حسب تعبيره.
***
رحلة الكذب تلك لم تتوقف بل استمرت لأعوام حتى عندما قلت المكالمات واللقاءات وانفصلا إلا فيما يلتقيان بصدف هنا وهناك، ويحاول هو أن يعيد ذاك الذى كان ويردد أنه لم يحب غيرها بل يقسم بأنها حبه الحقيقى الوحيد.. لفترة طويلة جدا جدا صدقته وعاشت له ومن أجله حتى لو لم يكونا على تواصل.. ابتعدت عن الكثيرين رفضت حتى المحاولات البائسة.. ضحكت من ذاك الذى عرف بتعلقها بل عشقها للرجل البعيد الذى يظهر كما أقواس القزح.. ورددت: لا يهم أن تنتهى كل قصة حب بالزواج، ربما أقنعت نفسها بوحدتها وكذلك باستمتاعها بها، وبأن هناك من يفكر فيها فى كل لحظة حتى وهو بين أسرته.
***
أيقظها من سرحانها ذاك قائلا أين أنتِ كأنكِ حلقتِ بعيدا؟ ماذا يشغلك؟! تحدثت عيناها عن مخزون سنين، فلم تملك إلا أن علقت ببضع كلمات فَهم منها أنها لم تعد مهتمة بما يقول. عاد هو لنفس الأسطوانة القديمة بمدى حبه وكيف أنه «حمار» لأنه لم يتزوجها وأنه يريد أن يقضى ما تبقى من عمره معها!!
***
لم تتمالك غضبها ورددت: «ممكن أن ننهى هذه القصة السخيفة بعد ثلاثين سنة بشىء من الكرامة والاحترام»، ربما لم يصدق أنها هى تلك المتسامحة، المتفهمة الناضجة صاحبة القلب الكبير ستتحول إلى هذه السيدة!! أعجبت بنفسها أنها حولت كل ما يقوله إلى وصلة من السخرية عليه، وحتى على كل ما يقول، طارت العبارات من دماغها، كل تلك الساعات التى رسمت فيها سيناريو واضحا لما ستقول فى أول فرصة لأول لقاء.. ولكنها لم تحزن، لأنها المرة الأولى التى لم تضعف بل أحست بأنها تريد أن تغادر المكان.. ترجاها أن يبقيا سويا وأن يدعها على العشاء كما كان يفعل أيام زمان، إجابتها كانت النفى والنفى «مستعجلة أنا»، لم يتمالك نفسه من أخذ نفس عميق، والتحلى ببعض الصمت عندما فهم بأنه ليس لديها موعد آخر فقط تريد أن تتناول الطعام دونه، وأنها أصبحت أكثر استمتاعا مع نفسها من أن تتحمل ساعات طويلة من النفاق.
***
أصرت على الرفض وهو أصر على المحاولة، خرج معها وهى تملأ رئتيها برائحة الانتصار لنفسها حتى ولو بعد حين.. ولم تتذكر إلا مقطع من تلك الأغنية «كنت بخلص لك فى حبى بكل قلبى».. عندما تلاقى الثلاثة العمالقة أم كلثوم، عبدالوهاب محمد، وبليغ حمدى.
كم كانت جلسة مملة.. كما كانت لحظة باهتة!!