فى الشرق الأوسط المعاصر ثلاث عصبيات عنيدة وعتيدة ترفض مغادرة فضاءاتها المعرفية التاريخية الموروثة، وترفع رايات المُمانَعة عاليًا فى مواجهة أى تقدم نوعى فى المنطقة، حيث تريد لها أن تبقى مجرد شعوب بالمعنى الرومانى القديم للكلمة، أى مجرد تجمعات إثنية مقعرة، وهى العصبية الإسرائيلية والعصبية الفارسية والعصبية التركية، لكل منها راياتها المعرفية وتكتيكاتها الميدانية، بيد أنها تجمع كلها على استراتيجية واحدة هى الغالب والمغلوب. والمغلوب فى هذه المعادلة راهنا هو العالم العربى.
نبدأ بالعصبية الإسرائيلية التى هى الأقدم، ذلك أن نشأتها تعود إلى زمن «مرسوم عزرا»، فى زمن الاحتلال الفارسى لساحل البحر الأبيض المتوسط ونشأة مملكة القدس اليهودية فى القرن الخامس قبل الميلاد. لهذه العصبية سرديتها التاريخية المتينة المبنية على تكامل فى صيغة الانتماء بين الهوية الدينية والهوية القومية.
أما تمظهراتها المتعصرنة وتلحفها بالطلاء الديمقراطى، وشرعة حقوق الإنسان، فلم يخترق جلدها، بدليل المبادئ التى تأسست عليها الدولة الإسرائيلية وسبكها لمفهوم المواطنة المحصورة بأبناء قومها حصرًا. ولتبرير موقفها هذا، تلجأ العصبية الإسرائيلية إلى تذكير ما عانته من صدمات جرحية وحضارية فى الأمس القريب والبعيد.
وهنا نتوقف عند إحدى خصائص العصبية كيفما جاءت، وهى طاقة النقمة والحقد الذى توليه للجهة التى تقوم بالتغلب عليها. فالغلب هو دستور العصبية، وهو، كما شرحه أستاذنا ابن خلدون، لا يعنى الانتصار على المغلوب فحسب، بل أيضًا حرمانه من حقوقه واستتباعه؛ إذ يمنح بعدها بعض فتات حقوقه منحًا تحت سقف المغالبة والممانعة. فالمغالبة تأتى أولًا، وهى عسكرية الطابع، ويمارسها صاحب الشوكة. أما الممانعة فتأتى ثانيًا ولاحقًا وهى سياسية السبك، ويمارسها الحاجب.
• • •
العصبية الفارسية مثلها مثل العصبية الإسرائيلية، هى قديمة للغاية، ويعود تبلورها الأول إلى زمن الإمبراطورية الفارسية التى حكمت عسكريا قسما واسعا من الشرق الأوسط وتخوم آسيا الشرقية.
وعليه فإن سرديتها التاريخية تقوم على أمجاد عسكرية وهيمنة مديدة على شعوب عدة، شرقا وغربا، بحيث إن أبخرة هذه الانتصارات تحولت مع الزمن إلى استعداد معرفى مقعر بالتفوق النوعى المستحق، وبوجود إنسان خارق فى الشخصية العسكرية والسياسية على السواء.
فالجاه التاريخى والجيو- سياسى يكمن فى صميم هذه العصبية، الأمر الذى يجعلها عصبية قومية فى المقام الأول، على خلاف العصبية الإسرائيلية التى تقوم على مرتكز دينى تأسيسى تم ربطه بهوية قومية متخيلة. إلا أن هذه الصيغة الأولى، التى لطالما اصطبغت بها العصبية الفارسية، عادت فاستلحقت بهوية دينية مذهبية متينة منذ قرون قليلة إلى الوراء، فباتت اليوم تقوم على قاعدة صلبة من ركنين أحدهما قومى والآخر دينى.
ولا بد من الإشارة إلى أن العصبية الفارسية قد عانت، مثلها مثل العصبية الإسرائيلة، من صدمات جُرحيّة عبر التاريخ، مع فتوحات الإسكندر المقدونى كما مع الفتح الإسلامى، بمكونه العربى التأسيسى، بحيث إن الكراهية تجاه الغرب الإغريقى والغرب عموما، تتجاور مع نقمة على العرب الذين ضَربوا وزعزعوا أركان الإمبراطورية الفارسية القديمة ذات يوم. فالذاكرة الجمعية الفارسية، المعتدَّة بأمجادها السابقة وتفوُقها الثقافى والعلمى المديد، لا تُسامِح حتى اليوم محطمى هذه الأحلام الماضية.
كما تجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن مفهوم كراهية الآخر الذى يصاحب دوما العصبيات، إنما يتخذ فى الحالتين الإسرائيلية والفارسية طابعا خاصا، إذ إنه يجيء على نحو علنى (داخليا) أو مكتوم (خارجيا)، بمثابة انتقام حضارى عتيق.
ويوجه هذا الشعور الكاسر إلى الأغيار، أى إلى جميع الذين يقعون خارج دائرة الـ "نحن"، مع التركيز فى كل مرحلة زمنية على عدو بعيْنه. علما أن هذه النقمة المديدة تتحول إلى حقد حضارى عتيد يصاحب الشخصية العامة للجماعة.
وبما أن هذا الشعور يضحى موقفا، نرى أن الحقد الحضارى المتأتى عنه يغدو حقدا مجتمعيا ونفس - اجتماعيًا عارمًا يدخل مبادئ التنشئة العصبية التى يصبها الأهل فى البيوت على أطفالهم وأحفادهم من أهل الجماعة، الأمر الذى يزيد فى الطين بلة، ويجعل الحقد العصبانى حقدًا انتقاميًا حضاريًا تراكميًا أصيلًا.
• • •
للعصبية التركية المستجدة زمنيًّا على اللتين سبقتاها فى الإقليم، لونها الخاص وسرديتها الخاصة. فهى لا تستطيع أن تطالعنا بأساطير أو بارتباطات سماوية لكونها أفقية الطابع فى بنيتها التأسيسية. فهى تقوم على التأصيل التاريخى العثمانى من ضمن أطر العرق الطورانى الأصفر، واستيطان قبائل مغولية فى جبال بلادها خلال حقبة ليست ببعيدة زمنيًا.
لذلك تقوم على حكايات تاريخية ووقائع عسكرية أكثر مما تقوم على معطيات تأسيسية عمودية تستنجد بأصول دينية أو أسطورية مبنية. لذا فإن شخصية السلطان هى بداية ونهاية «دائرة العدالة»، كما صاغها وعممها رئيس الديوان السلطانى.
ككل العصبيات عند نشأتها، أصيبت العصبية التركية فى أذهان وسلوك أصحابها بصدمة جُرحيّة بليغة، وكانت هزيمة السلطنة العثمانية على يد الحلفاء غداة الحرب العالمية الأولى فى صلب هذه الصدمة التى بدلت الوقائع الجيو- سياسية، فيما عمقت الانتماء إلى الشخصية العثمانية المجيدة فى نظر أصحابها. فالعصبية لا تموت بعد هزم رموزها عسكريًا، بل تغوص فى عمق اللاوعى وتظهر فى ثوابت السلوك بعد ذاك باستنبات الحقد الحضارى العنيد والعتيد مع الأغيار. وفى هذه الحالة يتجسد الأغيار الأعداء فى كل الذين أسهموا مباشرة فى سقوط السلطنة وهزيمتها على نحو مباشر (الحلفاء الغربيون) أو غير مباشر (كالذين ساندوهم ودعموهم).
لذلك تغدو الكراهية العصبية بعدها كراهية مطلقة للغير، وانطواء دفاعيا على الذات بغية اجترار حقد يُراد له أن يكون حضاريًا، فيما هو فى أساسه نفس - اجتماعى وسياسى فى مكوناته. فعملية التراكب التى تحصل فى الوعى واللاوعى لأصحاب العصبية، سواء أكانت عثمانية أم فارسية أم إسرائيلية، تحاول أن تنفس عن الاستتباع أو الاستعمار السياسى والاقتصادى الذى يلى زمن الهزيمة بفائض من الاستكبار والاستعلاء الثقافى الشعبوى المعصوب والموتور.
• • •
هى كثيرة ومتنوعة، وشعارها الأبرز التمويه عن مقاصدها البعيدة، فأول هذه الثوابت هو الافتراس. الافتراس الجغرافى الذى يجعل العصبية الإسرائيلية شديدة الشهية بالتوسع فى اتجاه فلسطين ولبنان والأردن ومصر. صحيح أن الأمر يحصل بصعوبة جمة تفرضها القوانين والدبلوماسية الدولية، إلا أن الشهية غير مكبوتة، بل معلنة ومستندة إلى أحلام توسعية ما زالت تبدو فى نظر حامليها حقيقية ومشروعة.
فالافتراس حلم العصبيات الكبرى المستدام، وهو مبنى على فائض القوة وعلى طفح عصبانى انتقامى حضارى يتسم بالحقد الحضارى العرم الذى أشرنا إليه.
على خطاها تمارس العصبية الفارسية علنا شهيتها المفتوحة راهنا على ما يطلق تسميته «العواصم العربية الأربع»، أى بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت. وتعتمد فى ذلك على مخزونها العصبانى الانتقامى الضامر من العرب الذى تلقى عليهم لوم ومسئولية كسر شوكتهم الجيو- سياسية فى المنطقة منذ أيام الفتح الإسلامى.
وفيما يقوم البناء العصبانى الإسرائيلى والفارسى على مرتكزى القومية والدين على نحو تعارضى، بل وتناقضى، تقوم العصبية التركية بتأسيس مشروعها التوسعى العصبانى على العنصر القومى بشكل أساس.
أى أن هذه العصبيات الثلاث تعمل جاهدة على تطويق العالم العربى المعاصر عبر إخضاعه بغير وسيلة عسكرية وسياسية وإعلامية لمشروعات توسعها. مع الإشارة إلى أنها تستند إلى عصبياتها المقعرة لتبرير مشروعية مشروعاتها، لا على القانون الدولى. فتحاول لذلك أن تلعب لعبتها تحت سقف ديبلوماسية خاصة بكل واحدة منها ساعية إلى جر المناطق والعواصم التى تشتهى افتراسها عبر الاستتباع.
وفى خضم تحقيق هذه العمليات التى تؤدى كلها إلى تطويق العالم العربى وإخضاعه، تقوم العصبيات الثلاث بعمليات تمويه إعلامى فضفاض وخطابة عالية النبرة وشعارات تُخفى كلها غياب مشروع حضارى تقدمه للشعوب الخاضعة لشهيتها التوسعية. فقط فراغ حضارى وغياب لأى مسعى آخر هو ما يصاحب المشروعات العسكرية المباشرة أو تلك المدارة بالواسطة. فما الذى يربحه العالم العربى أو البلدان المستهدفة من مشروعات العصبيات الشرق أوسطية الجياشة التى تطوقها مستفيدة من غياب مشروع عربى جامع، كما من صراع عصبيات مستدام فى سوادها الأعظم؟ لا شىء مفيدًا على الإطلاق.
فردريك معتوق
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/ybms3yyx