من وراء شباك ذاك المقهى جلستا متأملتين لشرفة غرفته بالفندق المعتق بزاوية ذاك الشارع الحيوى من مدينته التى تركها صغيرا وبقيت تسكنه فى كل مراحل حياته، فيعود لها، ومع الوقت أصبحت تلك الغرفة بالطابق الثانى من الفندق، وعند الزاوية المطلة على شارعين حيويين. هو الذى بقى فضوله وحسه الصحفى متقدين رغم التقدم فى العمر وعوارض المرض.
***
راحت صديقته وتلميذته التى ظلت طالبة مجتهدة فى مدرسته الصحفية بل ومدرسته فى الحياة، تستعرض زياراته بتفاصيلها حتى الصغيرة منها والمضحكة، وهو العاشق للحب والضحك، الكاره لطقوس النكد التى كثيرا ما تعود عليها بعض منا فى مجتمعات تجد فى الموت مناسبة للبكاء واللطم!
***
أفسد إصرار النادل على أخذ الطلبات استرسالها فى السرد اللذيذ، وعكر بعض صفو تلك الجلسة، فكان لا بد من الاستجابة له «قهوة مرة»، رددت هى سريعا وكأنها تقول لا تعكر صفو هذه الجلسة فى حضور الحبيب والأستاذ المعلم والصديق الغائب. بعيون ملأتها الدموع بمزيج غريب من الفرح الصبيانى راحتا تتطلعان صوب الشرفة وكأنهن يرونه فاتحا لبابها الزجاجى من بقايا ذاك الطراز المعمارى القديم، وخارجا إلى الشرفة حاملا بيده السيجار الذى كان يتلذذ بتدخينه وفنجان قهوته الخاص جدا.
***
كان الوقت ما قبل المساء بقليل وشمس حزيران لا تزال ترسل ببعض الحرارة رغم نسمة هواء تخفف من حر ما قبل نزول الشمس كاملة وظهور قمر ليل تلك المدينة الخاص جدا عندما ترسل جدران بيوت المدينة برائحة ياسمينها على المارة مع أول قطرة ندى.. أليست هى مدينة الياسمين؟؟ ربما.
***
أخرجت سيجارتها من شنطتها الصغيرة وأشعلتها ثم أخذت نفسا عميقا وكأنها تضع فواصل للحديث وهى تسرد لحظات من زياراته المتقطعة التى كانت لا تخلو من كثير من الطرافة واللقاءات العاصفة مع أصدقاء قدامى بقوا هنا وآخرين ما لبث أن تقاطعت دروبه معهم.. هو الجاذب للبشر من مختلف الأعمار والاهتمامات والخلفيات والأجناس والتوجهات.. هو الذى يتوسط تلك الجمعات وكأنه سلطان الجلسة يدير دفة الحديث ويحولها إلى ما يريد أن ينبش من مواضيع أو ما يرغب فى أن يتسلى به أو حتى ليعرف كيف غيَّر الزمن من شلته ومعارفه وناسه.
***
وصلت القهوة ساخنة و«بوش» ابتسمتا دون اتفاق وبصوت واحد «هكذا كان يحبها.. هكذا كان يقيم مهارة من قام بصنعها له». هو من يقدس ثقافة الطعام وخاصة فى بلده حيث تاريخ عريق من فنون الطبخ. لم يكن بالإمكان أن تنتهى جلسة معه دون أن يتذكر أكلات ما رسخت فى ذاكرته منذ الطفولة أو حتى فاكهة أو نوع من الخضراوات كل فى موسمه حيث اعتادت أمه أن تلون سفرتهم بها.
***
اختلط الضحك بالدموع فى طقس يلخص تلك العلاقة الخاصة بين الثلاثة.. تلميذتين بأستاذهما.. صديقتين من جيل مختلف بصحفى وكاتب وإعلامى ورجل من صنف آخر.. رجل لا يشبهه أحد.. يتقن الحديث عن العشق ممزوج بتحليل مطول للأوضاع السياسية فى المنطقة والعالم.. يرى تفاصيل النساء المترأسات لحكومات فى أوروبا مثل تريزا مى فيرسل تعليقاته على ملابسها وحذائها وتسريحة شعرها.. ربما تركيزه على بريطانيا أكثر من الدول الأخرى فهو الدارس فى كامبردج والذى دفعته الحرب الأهلية فى لبنان للنزوح المؤقت إلى لندن حيث لم يتخلَ عن كتاباته وكتبه ودار نشره هو الذى أطلق شعار «لا تتركوا الكتاب وحيدا».
***
بدا الحديث وكأنه محاولة أولية لمشروع كتاب يستذكره بكل زوايا شخصيته المتنوعة بل هى شخصيات متداخله والتى تبدو متناقضة أحيانا.. عادتا للنظر إلى الشرفة بعد الشرود فى السرد المتقطع لمراحل ومحطات من تلك الحياة الثرية المليئة بالتفاصيل المطرزة بكثير من الفرح والضحك.
***
بعد أن انتهيتا من احتساء القهوة ودَّعتا غرفته بشرفتها الفسيحة وكأنهما يودعانه لمرة أخرى.. مضيتا فى المشى بطريق الذكريات كصغيرتين تكتشفان مدينة عشقها حبيبهما.. الدكاكين المكتظة ومحلات الشاورما وصانع سندويتشات السجق الشهية ورائحة الفلافل.. مزيج هو من روائح وصور لمدينته كما كان يتذكرها حتى راح يحتفظ بالتفاصيل فى أركان المساحات المليئة بالصور.