«الآن بدأت حياتى».. فوضى المدينة الخاوية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الآن بدأت حياتى».. فوضى المدينة الخاوية

نشر فى : السبت 20 يوليه 2024 - 5:20 م | آخر تحديث : السبت 20 يوليه 2024 - 5:20 م


تعجبنى الروايات الذكية التى تعتمد على التفاصيل البسيطة، وعلى اكتشاف الجوانب النفسية والاجتماعية بمهارة، لتقول أشياء مهمة عن مجتمعها وزمنها، عبر الحكاية وحدها، يمكن أن نرى أثر الأحداث الكبرى على الناس، ومن دون صخب أو أصوات عالية.
رواية مثل «الآن بدأتْ حياتى»، الصادرة عن دار الكرمة للروائى السورى سومر شحادة، تحقِّق ذلك بامتياز، حيث ترسم ملامح علاقات اجتماعية مضطربة، وتُعرّى صداقات معلّقة فى الفراغ، وتستخدم تقنيات رواية الجريمة، لكى تتحدث عن جرائم أخرى مستترة، فننتقل تدريجيّا من شخصيات مأزومة تنشد الخلاص إلى مجتمعٍ شوهته الحرب، وأنهكه الفساد، وضربته الفوضى، وحوّلت الأزمة منازله إلى أماكن خاوية، واقعا ومجازًا.
أول ما يلفت النظر فى فنية هذه الرواية أنها تستلهم الشكل البوليسى، وتكسره فى نفس الوقت، لأنها تريد أن تخبر قارئها منذ البداية أن الحكاية ليست عن جريمة غامضة يتم التحقيق بشأنها، ولكنها عما وراء هذه الجريمة، أى إن الجريمة مجرد وسيلة للتعرية والكشف والتحليل، وأن السياسى والاجتماعى هو الأساس، وبالتالى فإن التحقيق لا يحل مشكلة الشخصيات، ولا يريح القارئ، بل إنه يفعل العكس.
بناء الرواية البوليسية الكلاسيكى يبدأ بالجريمة غالبًا، ثم ننتقل إلى الشخصيات، ونعرف المزيد عن حياتها وسلوكها، بحثًا عن الدوافع والاحتمالات، ولكن سومر يفعل عكس ذلك، فيبدأ برسم ملامح الشخصيات، عبر أصواتهم، ونتبيّن بالكاد عبر السطور كلامًا عن جريمةٍ ما، ثم نقرأ بيان الداخلية، فنعرف أن الجريمة تتعلّق بسقوط المحامى الناجح يوسف الشهّال من فوق سطح منزله، وكان قد ودّع أصدقاءه فى حفلة منزلية، قبل أن يهاجر نهائيّا إلى أمريكا مع زوجته ريما.
السلطات تقول إن السقوط انتحار، والرأى العام يتحدث عمن يقف وراء إسقاط المحامى عمدًا، وارتباط الجريمة بقضايا فساد غامضة، فيتم فتح التحقيق الشكلى. وبينما تتم التحقيقات فى رواية الجريمة بطريقة جادة للغاية، فإن تحقيقات الشرطة فى الرواية تتم بشكل مسرحى وهزلى، وفى مطبخ منزل المحامى، وكأنه المكان المناسب لطبخ الحكاية، وإسناد الجريمة لقاتل مصطنع.
أما شكل السرد فهو أيضًا يتحول إلى مشاهد وحوارات تستلهم المسرح، ورغم أننا نكتشف تورط نزار، خال الزوجة، بشكلٍ ما فى الجريمة، وفى مسرحية التحقيقات، فإننا لن نعرف بالضبط حقيقة ما جرى قبل سقوط المحامى يوسف، بل لعل سقوطه هو الجريمة الأقل خطورة، مقارنة بجرائم كثيرة تتكشف تدريجيّا.
الشخصيات هى إذن قلب الحكاية، ومرآة المجتمع كلها، جميعها شخصيات مأزومة، تفتقد الأمن والاستقرار والسعادة، خيوط الصداقة واهية، والخيانات تتم بسهولة، ومن دون شعور بالذنب:
تنفصل صفاء عن زوجها إياس، صديق يوسف، وتأخذ معها ابنها الصغير، بعد أن تركت الوطن، وتعيش ريما تعاسة مستترة مع يوسف، رغم الثراء والصعود الطبقى، وتتعدد علاقات يوسف العاطفية مع لين، ومع صفاء، زوجة صديقه إياس، وتبدو لين نفسها كما لوكانت ريشة فى مهب الريح، تشعر بالخذلان لهجرة يوسف، وتجد فى إياس الجريح الملجأ والملاذ.
أما جيل الآباء فهو أكثر خواء: ناديا والدة صفاء علاقتها مع ابنتها ومع زوج ابنتها بالغة التعقيد، تحاول ناديا أن تمسك بالزمن الهارب، فى حين يبدو نهاد والد يوسف خارج الزمن، أولاده سافروا، ويوسف يتجهز للهجرة أيضًا، لا يسيطر نهاد على جسده، ولا يستطيع الكلام، وينتظر أن يتركونه فى دار للمسنين، وستكون إيماءة نهاد الخرساء من أدلة التحقيقات الهزلية للبحث عن قاتل يغلق الملف، ويمنع الرأى العام من تبادل الإشاعات.
رُسمت ملامح كل شخصية بتفصيلاتٍ جيدة، وبالتركيز على البعد النفسى، ووضح منذ البداية مدى التفكك الداخلى والخارجى، ورغم أن الأحداث تتم فى يوم واحد، إلا أن حكاية كل شخصية تأخذنا إلى حياتها كلها، خواء الشخصيات يعادله خواء المدينة مكان الحكاية، اللاذقية التى كانت نابضة بالحياة والجمال، صارت مدينة المنازل الخاوية، التى هجرها أهلها، بسبب ظروف الحرب، أو نتيجة الأزمات الاقتصادية.
تُختبر الصداقة اختبارًا عسيرًا، الشخصيات ليست شريرة، باستثناء نزار الذى يبدو أنه يحكم المدينة مع آخرين، ولكن الجميع يتخبطون. الفقدان أيضًا فكرة حاضرة، فقدان الأمان والراحة، الفقدان بالموت أو بالهجرة، تتردد أيضا فكرة «المهانة» على مستوى الوطن والشخصيات، ولكن من قلب مهانة وفضيحة إياس ولين، ستبدأ حياة جديدة، وكأنه لم يكن ممكنًا للاثنين، الأكثر تهميشًا وحزنًا ووحدة، أن يهزما العجز إلا بحدث كبير، يمثل ميلادًا بعد مخاض عسير.
لن نرى الحرب، ولن نسمع صوت رصاصة، ولا جملة حوار عن المعارك فى مدن الوطن، ولكننا سنرى ونعاين حربًا أخرى، معركة داخل كل شخصية، وبين كل شخصية ومن حولها، الأسر تتفكك رغم المظهر اللامع، والحب مجهض أو مختنق، المجتمع الظاهر لنا يوازيه مجتمع آخر لا نراه، وشخصية مثل إياس لا تستطيع أن تخرج من الماضى، ومن ذكريات زوجة تركته، وأخذت معها ابنهما، مازال إياس غير قادر على تحديد كم سنة مرت على الطلاق، ما زال مستسلمًا، ومنتظرًا لبعث جديد، حتى لو كان ذلك البعث من قلب الفضيحة.
نهاد المحامى الكبير، أصبح أخرس، ينتظر مصيرًا مجهولًا، يشهد مأساة ابنه يوسف، ولا يستطيع أن يفعل شيئا، بل ويتم استخدامه كديكور للمسرحية. تفرغ المنازل من أهلها، وتبقى شاهدة على ذكريات حبيسة، مثلما ظلت ألعاب ابن إياس، وملابس الزوجة صفاء، شهودا على أنه كان يمتلك يومًا عائلة.
يمكن أن تقرأ الحكاية كلها أيضًا من زاوية «غياب العدالة» على كل المستويات: علاقات القوى مختلة، سواء على مستوى علاقات الأفراد مع بعضهم البعض، أو على مستوى العلاقة مع السلطة، والمسكوت عنه أكبر من المعلن، سواء على مستوى الاصدقاء، أو على نطاق «تقفيل» قضايا السقوط من أسطح المدينة الخاوية، فكأنه سقوط على سقوط، دون قاع أو نهاية.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات