كان الصباح يبدأ عندما يفتح ذاك البحرينى البسيط أبواب مدرستنا الابتدائية الضخمة.. يحاول ان يجر باب الحديد بكثير من الجهد فنتدفق نحن الفتيات الى الداخل فى وقت كان هناك حنين يومى للمدرسة عندما كانت تعنى المتعة والمعرفة والشقاوة والمرح وفرح الأيام المغمسة بالبراءة، والحب أيضا.. نعم كانت هناك مدرسات يعلمن الفتيات فن الحب بكل أنواعه لم يكن الانغلاق قد خيم على المنطق والعقل فى هذه البقعة او غيرها من ذاك الوطن الممتد.. تداعت هذه الصور لذاك الباب ولتلك الأيام ربما لرؤية تلك الأجساد الصغيرة المكتظة فى «أتوبيسات» المدارس وعربات النقل الصغيرة فى أول أيام العام الدراسى.. ثم انسكبت معها سلسلة من الخواطر والأفكار بين الهناك والهنا.. بين الأمس واليوم.. ودون محاولة لا يقال السيل تدفقت الصور واحدة تلو الاخرى تأتى من خلف تلك الأسوار العتيقة التى ترحل بنا ما أن ندخلها إلى عوالم من الفرح الأزلى!!!
حينها كنا نضحك لأى امر وعلى اصغر وأتفه الأشياء وكانت المدرسات مادة دسمة لتلك السخرية البريئة، مثل استدارة جسد تلك المدرسة او نطق الأخرى او بالأخص لدغها ومشية تلك وووو... كان الضحك مرادف للمدرسة حتى المراحل المتقدمة من الدراسة فلم تكن الكهولة المبكرة قد حلت على قلوب الصغار كما هو حالنا اليوم.. وكان فعل الضحك يزداد مع تلك المدرسة المتسلطة من بين كل المدرسات كانت هى الأكثر قسوة وربما عنفا. كيف يتلاقى التعليم والتعلم مع العنف؟؟ فهى، اى تلك المعلمة كانت تمارس الضرب اليومى كما تشرب قهوتها الصباحية ساخنة.. تنبش عن الأخطاء أكثر من بحثها عن شىء من التجديد والجمال فى الفتيات الصغيرات الممارسات لفعل الضحك الممنوع فى بعض مؤسسات التعليم التقليدية منها وحتى المدعية للتطور مدفوعة الاجر الشديد الارتفاع!! كنا نمارس المقاومة للعنف بالضحك حتى البكاء!! وتزداد القهقهة مع تكرارها لتلك العبارة «إذا كان الكلام من ذهب فالسكوت من فضة».... ربما لأننا ندرك، رغم سنواتنا المبكرة، أنها لا تفهم معنى العبارة التى تحفظنا إياها ولا تمارسها حتما!!
كبرت وأنا أردد الكلمة كما حفظتها أليس التعليم عندنا هو فى جزئه الأساسى تحفيظ دون المساس بالعقل والمعرفة؟!
ولكن تلك العبارة نفسها التى مازلنا نكررها لا نتقن تنفيذها كما هو واقع كل الأمثلة المكررة تبقى هى فعل للفعل نفسه وقول للقول نفسه فقط.. مؤخرا عادت بى الذاكرة لتلك المدرسة المعتقة فى الذاكرة وللفصل الدراسى شديد البساطة وتلك الأيام مع المدرسة شديدة القسوة، عدت لها او عادت لى عندما انتشر فعل الكلام فى عالم كانت اولى خطواته هى الفعل والعمل وليس القول و«الهذر»!! امتلى الكون بتلوث الكلام وليس الكلمات، هى ذات الجمل وذات التعابير وفيها تذكار آخر بتلك المرحلة حيث التكرار والحفظ لنفس العبارات.. حتى مظاهر الحداثة غلفها فعل ما قبلها من كلام منمق يعاد تكراره.. وفى الكثير من السويعات أتمنى أن أعيد تلك العبارة «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب» وربما بالإمكان الإرسال على التويتر والفيس بوك وكذلك لكل الفضائيات «المحدثة» ان كلامكم يخدش ضجيج الصمت فهل تعملوا بتلك النصيحة وتريحون المتلقى والمستمع.. كثرت الكلمات المتراشقة فى الجو، امتلأ الكون بالندوات والاجتماعات واللقاءات ولا ننسى طبعا «التوك شو» فهذه الأخرى هى المصدر الأكبر للتلوث اليوم بدلا من أن تكون مصدرا للتنوير والتنور والتقليل من حيرة المتلقى القابع خلف جهازه الممسك «بالريموت كنترول» المتنقل بين وبين وبين.. المستمع لنفس الوجوه والأسماء والعبارات والكلمات بل والتحاليل والتعريفات.. لا شىء يضيف سوى تطاير فى الفضاء ملء الوقت بالكلام هو المطلوب ربما؟!
الكلام من ذهب.. وقف آخر وقال ربما علينا تحويلها إلى «الكلام من نفط» ربما حينها سيستطيع بعضنا أو بعضهم فهم قيمة السكوت الناطق بعمق!!
للكلام ذاكرة كما للصمت أيضا ولذلك تبدو الأمنيات بأن يتوقف الكلام لأنه فى ضجيج الصمت جمالا ورؤية مختلفة.. عند التوقف عن فعل الكلام ربما يفعل العقل ما التهى به عند انغماسه فى الكلام.. أن الكثير منه ليجرح تلك الأفعال الكبار التى شكلت قفزة على واقع كانت مدرستى تلك كما شبيهاتها المنتشرات فى مدارسنا يكرسنه بجهل أو قلة معرفة ربما؟!