تحتل «مقولة الربا» موقعا مركزيا فى بنية الفكر الاقتصادى الإسلامى. إذ تكاد تستنفد معظم الجهد الفكرى للمدافعين والمناصرين لمقولات الاقتصاد الإسلامى، حيث تجرى المطابقة الكاملة بين «الربا» و«الفائدة» بلغة المصارف الحديثة.
فتصبح «الفوائد المصرفية» فوائد ربوية بالضرورة وعلى سبيل القياس. ويتفرع من ذلك الحديث عن الأسلوب الأمثل لتجميع المدخرات وتوظيفها فى المجتمع الذى يسعى إلى تطبيق أصول الإسلام ومبادئه فى المجال الاقتصادى.
والربا يمكن أن يؤخذ على كل شىء يمكن أن يتم التعامل به، فيمكن أن يؤخذ على الأصول النقدية كالذهب والفضة كما يمكن أن يؤخذ فيما تنبته الأرض كالقمح والتمر والشعير، وما شابه.
والعلة فى تحريم الربا فى الإسلام هو توخى العدل فى المعاملات، ويلاحظ أن القرآن الكريم تناول الحديث عن الربا فى أربعة مواضع، كان أولها وحيا مكيا والثلاثة الباقية آيات مدنية. ففى الآية المكية يقول الله تعالى: «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ» (سورة الروم 39). أما الموضع الثانى، فكان فى سورة النساء «وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابا» (سورة النساء: 161).ثم تجىء الآية الثالثة تنهى عن الربا الفاحش «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافا مُضَاعَفَة وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (سورة آل عمران: 130). وأخيرا وردت الآية الرابعة التى ختم بها التشريع القرآنى كله فى الربا، حين قال سبحانه وتعالى ردا على العرب الذين قالوا إنما البيع مثل الربا: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» (سورة البقرة: 275).
وهكذا يتضح أن العدل وعدم الغبن هو القاعدة الأصولية فى المعاملة الحلال فى الإسلام، وهذا هو روح النص القرآنى، وينصرف إلى هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويستغلون حاجتهم وضعفهم. وكان «ربا الجاهلية» يتخذ صورة «التضعيف». فالربا هنا هو مقدار الزيادة على الدين نظير مد المدة وتأخير وقت السداد.. يدفعها المدين للدائن «إعادة جدولة الدين بالمعنى المعاصر». «ويمكن أن تستمر هذه الممارسة طالما استمر عجز المدين، وكل سنة فيها زيادة عن سابقتها وعن الأصل حتى يتضاعف الدين ويستغرق ما يملكه المدين، فينزع ملكه لمصلحة الدائن».
ويسمى هذا الربا «ربا النسيئة»، أى الزيادة الناشئة عن تأخير وقت سداد القرض. وهو الربا الذى حرمه القرآن. إذ يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافا مُضَاعَفَة».
تحديد منطقة الربا
كان الربا مفهوما متداولا وممارسة معمول بها وقت نزول القرآن. ولذلك اكتفت الآيات بذكره، دون أى تعريف أو تفصيل. وقد انقسم الفقهاء إلى فريقين بخصوص تحديد منطقة الربا والريبة. فهناك فريق من الفقهاء يرى أن الربا لا يكون إلا فى النسيئة، كذلك مال بعض الفقهاء المحدثين إلى حصر الربا المحرم فى ربا الديون على نحو ما ذهب إليه الفقيه الراحل الدكتور عبدالرازق السنهورى فى مؤلفه «مصادر الحق فى الفقه الإسلامى». وهو ما يسميه «الربا الجلى».
وفى المقابل، نجد أن بعض الفقهاء والمجتهدين ذهب إلى ضرورة التفرقة بين أنواع القروض عند تحديد دائرة «الربا المحرم»، ففى مؤتمر الفقه الإسلامى فى باريس أعلن الدكتور معروف الدواليبى «المفكر الإسلامى السورى الراحل» إن الربا المحرم ما كان نتيجة قرض استهلاكى «أى ما يصرف فى شئون المعاش». أما إذا كان نتيجة قرض إنتاجى (ينفق فى أوجه الاستثمارات المختلفة كالتجارة والصناعة» فهو مباح. وعلل الدكتور معروف الدواليبى هذا التخريج بضرورات المصلحة العامة لإنعاش الحركة الاقتصادية، وأن العلة فى تحريم الربا إنما كانت لمنع استغلال حاجة الضعيف.
بيد أن تطور المعاملات الاقتصادية أدى إلى توسيع دائرة الربا، لكى لا تقف عند حدود «عمليات الإقراض الربوى» على النحو السالف ذكره إذ أشار الرسول الكريم إلى «الربا» الذى يتولد من خلال عمليات البيع والتبادل السلعى الآجل، وهو ما اصطلح على تسمية «ربا الفضل». فربا الفضل ينشأ فى حالة «عدم التقايض» عند التعاقد. كأن يبادل ذهبا بذهب مثله يسدده بعد مدة.. على نحو ما يحدث فى بورصات العقود الآجلة فى آيامنا هذه ويفتح الباب للمضاربات.
وكان الإقطاعيون عبر العصور يمارسون ويأكلون «ربا الفضل» بشكل منتظم، فحين كان الفلاح يحتاج إلى تقاوى لزراعته وقوت لأسرته، كان يحصل عليها من السيد الإقطاعى.. ثم يقود برد الصاع صاعين أو ثلاثا عينا ودون توسيط النقوط وهو ما يسمى «الربع الإقطاعى العينى».
وينتفى «ربا الفضل» فى مجال التبادل السلعى عندما تكون العقود فورية «يد بيد». والأسعاد «عادلة» لا تحمل شبهة الظلم أو الغبن أو الغبن للبائع أو المشترى فى ظل ما تواضع علماء الاقتصاد على تسميته بالأسواق التنافسية حيث تتوافر المعلومات اللازمة للمشترى حتى لا يقع فريسة جهالة أو تغرير من جانب البائع.