سؤال بعضنا اعتاده رغم أنه ليس بالبرىء بل به مزيج من السخرية المبطنة والاستغراب وبعض التعالى وربما أيضا التشفى. يسقط بين جملتين أو فقرتين أو حادثتين أو حتى دون أى مقدمات منك أو من المجتمعين حول مائدة لشراب أو طعام.. يقفز سؤالهم غير البرىء «ياه هو أنت لسه عايش فى الأبيض والأسود؟؟» تتوقف لحظة قبل الإجابة وأحيانا تتلعثم وكأنك وضعت فى موقف المتلبس بالجرم حتى تثبت براءتك!! بعد بعض التفكير تقر وتعترف بأنك مغرم بالأفلام الأبيض والأسود وأنت تدرك أن سؤالهم أعمق من مجرد التعلق بأفلام الزمن الجميل حسب مفهومك ورأيك أنت وحدك وبعض الآخرين الحالمين مثلك.
• • •
تقوم بذلك محاولا أن تنهى الحوار الذى اعتاده وبعض الآخرين ممَن يشبهونك وهم ليسوا بكثير أبدا أبدا.. ولكنه أو هم لن يكتفوا بهذا القدر من الإجابة بل هى فرصة يتربصون لها دوما لأسباب عدة ربما أهمها أن يعيدوا الثقة إلى أنفسهم أنهم هم «الخط» الأصح فى الحياة وأنك ومن يشبهك لستم فقط حالمين بل مسئولين عن إغراق «الأمة» وربما البشرية فى جهالة سنين من النوم فى العسل كما يسمونه!
• • •
الأبيض والأسود عندهم ليست فقط هى السينما التى يتعطشون هم قبل غيرهم لتلقى دعوة لحضور مهرجاناتها والالتقاء بالنخبة واصطياد صورة هنا أو هناك ومشهد يصبح ربما «ترند».. فيما القائمون على هذه المهرجانات يكرمون كثيرين من الذين هم جزء من تلك المرحلة أى مرحلة الأبيض والأسود. نعم هى أصبحت مادة للمهرجانات فقط كما الدراسات والبحوث وقول الحق كلها تبقى جزءا من احتفالية مرحلية وبين جدران ثم ما تلبث أن تختفى كالسراب أو قوس قزح فى يوم ماطر.
• • •
الأبيض والأسود ليسا لونين ولا وصفا لأفلام السينما الأولى قبل أن تدخل تقنية الألوان وقبل أن يعاد تلوين الأبيض والأسود ويسمى ترميما أحيانا! أو بحجة المحافظة عليه.. فالأبيض والأسود هو وصف لحالة أو هى مرحلة يفضل الكثيرون رميها بكل موبقات الدنيا بل ويريدونها السبب لما حصل ويحصل لهم شخصيا وعائليا ومجتمعيا بل وعلى صعيد المنطقة ككل حتى أصبح الأمر يشبه التهمة أو «العاهة» التى يحملها بعضنا.
• • •
الأبيض والأسود عندهم هو عكس للتطور والتقدم بل هو شكل من أشكال الجمود ووضع الرأس فى الرمل كالنعامة أو هو شىء من الحجج والمبررات الواهية التى تريد للمجتمع والبشر فى منطقتنا «المنتجة» جدا أن تبقى حبيسة الماضى المعزول أو هكذا يرددون ويروجون!
• • •
كثيرون منا سقطوا فى ذاك الخوف من تلك التهمة أو هكذا اعتبروها ولذلك فهم يحاولون دوما إبعاد هذه التهمة عنهم أحيانا بالموافقة على ما يطرح ويقال وكثيرا بالصمت وهو أقوى سلاح فى وجههم جميعا. رغم أن كثيرين من «عشاق» الأبيض والأسود قادرون على وضع الحجج ورصها فى وجوههم إلا أنهم ربما لمعرفتهم بأن من يحملهم هذه التهم يحمل أسبابا خاصة جدا لذلك أو باختصار وببساطة شديدة هو أو هى يرددون ما يسمعون والرواية السائدة هى العداء لك رغم أن محبى الأبيض والأسود ليسوا جميعا جهلة أو متعصبين، بل إن المراحل السابقة كغيرها بها كثير من الأخطاء وبعض التعصب والفساد أيضا. ولكن كل ذلك لا ينفى أنه يوما ما سيكون الحاضر «الملون جدا» فى رأيهم، هو أبيض وأسود الأجيال التى ستأتى بعدهم وستنغمس أكثر فى محو الماضى وكأنه هو سبب كل الفساد والجهل والتعصب وهيمنة الرأى الواحد بل وكثرة الظلم وانعدام العدالة الذى يعيشون فيه.
• • •
ربما قراءة أخرى للأبيض والأسود كما يقول ذاك الباحث المتعمق الذى يضحك بسخرية من مسألة وصمه بأنه من بقايا الأبيض والأسود ويردد لا يخجلنى الماضى بما كان وما فعل بل يؤلمنى الحاضر الذى يتصور أنه يقوم بالبناء فيما هو متخصص فى الهدم. ورغم أن بعض الساخرين يتصورون أنهم هم من «دهنوا» ولونوا الهواء والماء والسماء وما بينهم، إلا أنهم هم من يكرسون اللون الواحد وهم الأكثر قدرة على البناء فى زمن يعتبر فيه البعض أن الإنجاز الحقيقى والإضافة للبشرية وليس للمنطقة فقط هو بناء أعلى برج وأكبر مركز تجارى ونقل المطاعم بنجومها المتعددة إلى عواصمنا العريقة وتكريس مزيد من الاستهلاك فيما مخترعينا وعلمائنا يرحلون ربما طلبا للجوء فى بلدان ما زالت ترى أن الإنجاز الحقيقى هو ما قاله جبران قبل عشرات السنين... أن تلبس ما تصنع وتأكل ما تزرع و.. و..
كاتبة بحرينية