تعود جذور الوضع السياسى المتأزم فى مصر الى فترة حكم الرئيس السابق حسنى مبارك التى امتدت لمده ثلاثين عاما تمت خلالها مصادرة الحياة السياسية وحوصرت الاحزاب فى مقراتها وتحكم الأمن فى مقاليد الحياة النقابية والطلابية. وقد ساعد هذا المناخ على نمو وانتعاش الحركات الإسلامية خلال ثلاث حقب : الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضى والحقبة الاولى من القرن الواحد والعشرين سواء فى اطار ماسميت الجماعة الإسلامية أو جماعة الإخوان المسلمين.
وقد أدى هذا الى خلل كبير فى الحياة السياسية منذ نهاية السبعينيات، حيث تم التضييق على التيارات الليبرالية واليسارية وتشجيع التيارات الإسلامية فى الجامعات المصرية وفقا للنهج الذى سار عليه محمدعثمان اسماعيل الذى عين محافظا لأسيوط فى عهد السادات فى 29 مارس 1973. وقد انعكس ذلك بدوره على انتخابات النقابات المهنية حيث سيطر التيار الإسلامي على نقابات الاطباء والمهندسين والصيادلة وغيرها من النقابات وهكذا استفادت جماعه الإخوان المسلمين من هذا الوضع حسبما جاء فى العديد من الشهادات لقيادات إخوانية معروفة (راجع كتاب الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر 1970ــ1984).
ومع مرور الزمن أدت هذه الاوضاع الى افتقاد التوازن فى الحياة السياسية المصرية نظرا لحالة الخندقة السياسية السائدة وانعدام الحوارات الصحية بين التيارت السياسية المختلفة مما يدعو الى الانغلاق والتعصب وسياده نوع من حرب «الاشباح». وأود أن أؤكد هنا أن التوازن فى الحياة السياسية صفة أساسية للنظم الديموقراطية المستقرة كما هو الحال فى بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الامريكية. بل كان هذا هو الوضع السائد فى مصر قبل ثوره 23 يوليو 1952، فرغم الحضور القوى لجماعة الإخوان المسلمين فى الشارع أسفرت الانتخابات البرلمانية عام 1950 عن نجاح ساحق لحزب الوفد فى ظل انتخابات حرة ونزيهة. إذ أن التوازن مطلوب فى الحياة السياسية الداخيلة للأمم والشعوب كما هو مطلوب فى العلاقات السياسية الدولية. استمر هذا الوضع غير المتوازن حتى عام 2005 حينما بدأت بعض التحركات السياسية المستقلة (التى لا يقودها التيار الإسلامى) مثل : حركة كفاية، انتفاضة القضاة بسبب تحويل عدد من القضاة الى الصلاحية بعد أن كشفوا عن تزوير الانتخابات فى 2005 ، واضراب عمال المحلة فى 2008 ، واضراب موظفى الضرائب العقارية (سبتمبر 2009) الذى كان بداية لإنشاء اتحاد النقابات المستقلة. وقد مهدت تلك التحركات لقيام ثورة 25 يناير 2011.
●●●
ولما قامت ثوره 25 يناير انعكس هذا الوضع « غير المتوازن « على القوى المدنية التى شاركت فى صنع الثورة إذ لم يكن هناك قيادة موحدة ذات برنامج واضح ولم يجمعها سوى شعارات عامة: عيش ــ حرية ــ عدالة اجتماعية ــ كرامة انسانية على عكس البلدان الاخرى التى قامت فيها ثورات بقيادة جبهة موحدة من القوى السياسية التى كانت جاهزة لاستلام السلطة بعد سقوط النظام . ونقطة الضعف هذه كانت مره أخرى نتاج الاستبداد ومصادرة الحياة الديمقراطيه فى ظل نظام مبارك. ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين شاركت فى الثورة بدءاً من يوم 28 يناير كأحد الفصائل الاساسية إلا أنها استغلت تدريجيا حالة الفراغ وعدم التوازن السياسى السائدة بعد تنحى الرئيس السابق مبارك وبدأت تناور بالاستيلاء على منجزات هذه الثورة.
وتوالت الاخطاء بعد ذلك، إلا أن أكبر خطأ استراتيجى ارتكبته جماعة الإخوان هى الترشح للحصول على نسبه تفوق 50% من مقاعد البرلمان والترشح لمنصب رئيس الجمهورية رغم معارضة مجموعة كبيرة فى مجلس الشورى العام للإخوان. بينما لم يكن المجتمع المصرى مهيأ لهذا الزحف المبكر على السلطة والاستعجال قبل أن يستعيد المجتمع توازنه, وانعكس ذلك بدوره على الاستئثار بكافة مؤسسات الدولة : الرئاسة، البرلمان، الحكومة، وتنحى تدريجيا شعار « مشاركة لا مغالبة»!
●●●
كان الأحرى بجماعة الإخوان أن تستمر لفترة انتقالية جزءاً من المجتمع المدنى والحياة النقابية والطلابية والحياة الحزبية الوليدة دون أستفزاز أو استئثار، حيث كانوا يتمتعون بقدر معقول من القبول الشعبى. وقد أدى هذا التعجل والرغبة فى الاستئثار الى انكشاف مبكر لضعف قدرة الإخوان على إدارة شئون الدولة كما تجلى ذلك فى تشكيل حكومة الدكتور هشام قنديل فى طبعتها الاصلية والمعدلة وصدور الاعلان الدستورى فى 21 نوفمبر 2012 الذى يعطى سلطات مطلقة للرئيس ويحصن قراراته. وفى ظل هذا الانكشاف وتدهور شعبية الرئيس وتصاعد الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة كان الاجدر بالرئيس المعزول أن يبادر بطرح نفسه على استفتاء شعبى لتجديد الثقة أو سحبها حقنا للدماء واللجوء لآلية ديموقراطية أتبعت فى عده بلدان فى ظروف مماثلة : فرنسا( 1969) الولايات المتحده (1974) الارجنتين (1989) البرازيل (1992) فنزويلا (2002) لتفادى الحلول العنيفه كما حدث فى 30 يونيو 2013 وما بعدها.
ولما فاتت هذه الفرصة وقعت القارعة وكانت الانتفاضة الشعبية فى 30 يونيو 2013 وما تلاها من تطورات. وكان رد قيادة جماعة الإخوان المسلمين عنيفا وعصبيا تمثل فى اعتصام رابعة العدوية وتحركات انتقامية أخرى بمناطق مختلفه من البلاد. وقد أدى هذا الى اغلاق قنوات الحوار والتفاهم لأنه أصبح هناك تنازع بين شرعيتين. وهذا التنازع لم يكن حله من خلال الاعتصامات والمسيرات وقطع الطرق الذى بلغ ذروته فى المسار «الكربلائى» فى اعتصام رابعة العدوية (على حد تعبير نادر بكار أحد قيادات حزب النور السلفى).
وكما قال الشاعر الثائر عبد الرحمن يوسف فى رسالة إلى والده الشيخ يوسف القرضاوى (اليوم السابع عدد 7 يوليو 2013) :- فى ميدان رابعة العدوية الآن مئات الألآف من الشباب المخلص الطاهر وهم طاقة وطنية جبارة، سيضعها بعض أصحاب المصالح وتجار الدم فى معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فلا هى معركة وطنية، ولا هى معركة إسلامية، ولا هى معركة ضد عدو، ولا هى معركة يرجى فيها نصر، وكل من يدخلها مهزوم «. وكان نتيجة هذا النهج تعميق الانقسام فى صفوف الشعب وفتح الباب أمام حملات الكراهية المتبادلة وتعطيل أى محاولات لفتح نافذة أمل لمستقبل جديد لمصر.
●●●
ومن ناحية أخرى، تم تصوير ما حدث فى 30 يونيو وما بعدها على أنه انتكاسة وتراجع عن مكتسبات ثورة 25 يناير 2011، رغم أن ثورة 25 يناير هى ثورة مستمرة متعددة الحلقات، وأن تصوير الأمر على أنه عودة لنظام مبارك وللدولة الامنية هو مغالطة تاريخيه كبرى. حيث أن عودة بعض الممارسات الامنية والقمعية كان رد فعل لتكتيكات جماعة الإخوان المسلمين للتعامل مع الأزمة والتحريض ضد الجيش وقياداته. وهذا يقتضى أن تراجع جماعة الإخوان المسلمين مواقفها وتقوم بعملية نقد ذاتى بشجاعة.
وفى يقينى أن الطريق الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم هو العودة الى المسار الديموقراطى من خلال انتخابات نيابية جديدة تتوافر لها كافة الضمانات من حيث النزاهة والحيدة وفى ظل مراقبة دولية، وإجراء تحقيقات جديدة وشفافة بخصوص التجاوزات والمظالم التى حدثت بعد 30 يونيو وقبلها حتى تلتئم بعض الجراح ويتوقف استنزاف الطاقات بحيث يمكن بناء دولة ديموقراطية حديثة قائمة على التعددية والعدالة الاجتماعية يشارك فى بنائها سواعد وعقول جميع المصريين من إسلاميين مخلصين وليبراليين ويساريين فى إطار ائتلاف وطنى لفترة انتقالية طويلة.
أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة