حمل دفاتره وأقلامه الرصاص وراح يجرى بين جمع من الاطفال المسرعين وهم متعطشون للعودة للمنزل خوفا من ان يكون الموت قد سرق احد الاحبة فى غيابهم، يذهب ليجلس على قبر أمه يحدثها طويلا عن المدرسة ورفاقه الذين رحلوا معها .. قبلها أو بعدها بيوم أو يومين.. كل بضع سنوات يرحل آخرين.. ينتهى من كل ذلك ليسترسل معها فى حديث خاص جدا عن كيف استيقظ فى الصباح واخوته ووالده لا يزالون مكومين فى تلك البقعة المتبقية لهم من بيت كان، وكيف رآها تسرح شعرها الاسود الزاهى كليل فلسطين، وكيف استيقظ على رائحتها.. وقبل ان يكمل يردد عليها وانكسارة شديدة فى عينيه، أن رائحتها لم تفارقه وانها بقيت معه حتى بعد ان وضعوا التراب على وجهها فى تلك الحفرة الصغيرة.. ولم يلبث وأن يقفز ليرسل سيل من أسئلته المعتادة ثم يقول «اشتقتيلى يامه؟» باحثا عن اجابة تنير أيامه الطويلة ولياليه المسهدة هو طفل سنوات الموت المنسى!!!
•••
يرحل كل يوم منذ ان توقف دوى القذائف ووقف هو ووالده واخوته على بقايا بيتهم ذاك الذى جاءت احدى قذائفهم، ثم عادت طائرة اخرى بعد اقل من دقائق، بدت كالدهر لتأتيهم بوجبة موت جديدة.. فى المرة الأولى سمع والده يردد «استرها يا رب» لم يكن هناك لهم احد إلا الرب لينادوه، كلهم وقفوا ليتفرجوا على الموت المعلن.. سكن الكون من حولهم والسماء لا تمطر ذاك المطر اللذيذ فى اوائل الليالى الخريفية، بل تمطر موت معلب يحمل دمغة صنع فى «؟؟؟؟» فى الطلعات التى تلت الضربة الثانية لم يعد يعرف كيف يعد، ولا يدرك ما الذى حدث.. فجأة سكن الكون فراحوا كعادتهم يتحسسون اطرافهم، وبعدها بيوتهم وقبل أن يدرك ما حدث سمع صريخ ونواح، ورأى أمه بين الركام.. فى اقل من ساعة كان قد خسر أمه ودفء بيتهم.. توالت الأحداث سريعا ليجد نفسه يقف على قبر أمه وحوله ما تبقى من اهلهم وجيرانهم وأحبتهم.. سال الدمع غزيرا حتى ابتلت كل ملابسه وتراب القبر، وكلما سمع نحيب أبيه وإخوته وأخواته ازداد حزنا على حزن.. ستمر بضعة أيام وآلة حربهم لا تتوقف، ولا وقت للحزن، فزياراته للمقبرة اصبحت أكثر من كل ما قام به وشاهده فى سنوات عمره الست.. هو ابن الحروب المتكررة. قالوا اعتاد الموت القادم مع كل وجبة صباح. وراح مدرسه يشرح له معنى الوطن الذى أرضعته له امه فى حليبها، وهى تضعه فى دفء قلبها.
•••
فى أيام المدرسة الأولى عرف أن آلة موتهم لم تأخذ أمه وحدها، بل رفاقه فى الفصل الذين بقيت مقاعدهم شاغره إلا من ملائكتهم ترفرف فوق مدارس تحولت الى بيوت فيما البيوت رحلت مع كل ذكرياتها.. تلك أريكة أبى المفضلة، وهناك دفتر الرسم الخاص بأختى سماح التى قالت لها مدرسة الرسم يوما «يا سماح لك مستقبل» وضحكت لتكمل «قد تكونين بيكاسو العرب» ابتسمت سماح ولم تنس فى مساء ذاك اليوم وهم جميعا محلِّقون حول سفرة عشائهم المتواضعة، وأكواب الشاى بالمرمرية التى تعشق مذاقها، لم تنس أن تسأل أباها «هو مين بيكاسو يا ابا؟»
•••
يتذكر كيف أنه ورفقته فى الأيام الأولى كانوا قد سمعوا عن الشهادة والاستشهاد من بعض الشباب والصبية.. اولئك الذين أدخلوا مفردات جديدة لقاموس النضال السلمى، ذاك الذى قام به غاندى وآخرون، هم فقط حملوا الحجارة عندما عبثت آلة الحرب فلامست أقدس المقدسات، ولم تبق لا على بشر ولا على زرع وسدت كل المنافذ حتى أوشكت ان تمنع الشمس من أن تستحم فى بحرهم كل صباح.. لم يبق سوى بعض من الشاطئ يرحل له ليلعب كرة القدم أو يطارد طائرته الورقية التى رسمت عليها سماح بعض من ما يسميه «شخبطاتها» وعلم بلاده بتلاوينه الأجمل.
•••
عندما توقف الدويّ القاتل وعاد بعض الحياة إلى الحياة وحياتهم تصور أن كل العالم سيحزن معه على أمه فقد توقفت الحرب وبانت مساحة للحزن وفيما هو يرحل فى خيال طفولى شديد البراءة كان العالم كل العالم قد نسى حربهم وموتهم وجراحهم وجوعهم وصبرهم، وقبر أمه الذى يجلس عليه كل يوم حتى الآن يؤدى واجباته المدرسية حتى الحساب الذى يكرهه.. ثم يخبر أمه بأنه لو نساها العالم كله، ستبقى هى ورائحتها الخاصة ملء وجدانه وقلبه.. هل نسيتم غزة؟ لا تزال المنازل مهدمة وصور الأفراح واللحظات الحميمية ممزقه، ومبعثرة بين الأنقاض وكثير من الدم والدمع والجرحى جسديا ونفسيا.. هل نسيتم غزة؟
كاتبة من البحرين