انطباعات
خولة مطر
ربما فرصة
كتب هجرت حتى تحولت في لحظة ما إلى جزء من تفاصيل البيت العادية، أفلام رائعة قديمة وجديدة وضعت القائمة لها وبقيت في مكانها بالقرب من ذاك الجهاز الذي تحول أداة للنكد المستمر كثرة مشاهدتنا ومتابعاتنا للأخبار وهى في مجملها مؤلمة، حزينة وتثير الاشمئزاز والقرف في كثير من الأحيان ربما لازدواجية المعايير وربما للكذب المنمق أو حتى لكونها أصبحت مرتعا للطبالين وبالطبع لا أعني أولئك الذين يعزفون الموسيقى بل آخرين هم أكثر فسادًا وبغيضة ولذلك فإن هذا الوباء قد أسكت بعضهم أو غطت عليهم أخبار الأعداد المتزايدة من المتساقطين تحت رحمة فيروس!!!
•••
..تأمل لم تمنحه الأيام لكثرة الجري خوفا من أن يسرقنا الزمن أو خوفا من أن نفقد أمرا لم نقم به!! أو عمل نتأخر عنه أو مناسبة لا نريد أن "تفوتنا".. كنا نريد كل شيء ونحصل في نهاية النهار على اللاشئ فقط فقاعات خلف فقاعات وأحاديث تتنوع بين النقاشات الحادة التي تساهم في تقسيم المقسم وتفتيت المفتت أو في كثير من التفاهات والحديث البارد المستهلك..
•••
الآن ومع صرخة أمنا الكبرى وغضبها، أمنا الأرض التي لم يحتفل الكثيرون بها رغم أن الواحد والعشرين من شهر مارس هو عيد الأم وهى التي أُهملت لسنين بل أُسئَ لها حتى لم تعد تتحمل فأدارت ظهرها وتركتنا نتحمل خطايانا ولكنها أكثر رحمة ككل الأمهات عادة لتقول ربما عليّ أن أمنحهم الفرصة الأخيرة بل الدرس القاسي الأخير لأن الأم عندما تقسو هى تنظر للبعيد لأطفالها، هى تعمل على تربيتهم عندما ضلوا الطريق أو رضخوا للغوايات المتنوعة كلها ليست دنيوية كما يكرر المنافقون من رجال الدين أي دين هو يتساوون جميعا. أولئك الذين عندما قال لهم مريدوهم انقذونا فالوباء قادم وهو يحصدنا كالجراد أسقط في يدهم وانقلب سحرهم عليهم وأوصدوا الأبواب مرة خوفا على "المؤمنين" وأخرى التزاما بالقوانين!!!
•••
وفيما خلت البيوت من أرواحها التي تحولت إلى أشباح لا حوار ولا مساحة للحب ولا حتى وجبة مشتركة.. كلا يستخدم المنزل كأنه محطة قطار سريع ينزلوا ليقضوا احتياجاتهم ويعودوا إلى الطريق، فما حدث كل ذلك جاء ذاك الفيروس ليعيد الحياة لبعض حقيقتها، لمعناها الأزلي.. فالحياة ليست فستان وحقيبة ولا هى يخت ورحلة تزلج فيما الأغلبية تعيش أيامها كجري الوحوش ولا تحصل إلا الرزق اليسير..
•••
هى مساحة لاغتسال الروح بدمع طالما انحبس في العيون والآن تدفق كالشلال، الدمع الذي انتظر طويلا حتى تعب وهو يعلم أن دونه لن تفتح النوافذ لحدائق مزهرة.. وهو الدمع الذي كان يبحث عن وقفة للبوح عن حزن أو ألم لأحبة رحلوا أو آخرين بعدوا حتى ولو بقيت أجسامهم تدور حولنا دون أن تتلاقى الأرواح.. مساحة لفتح تلك الألبومات القديمة بصور كان لها طعم ورائحة وليست هذه التي نضغط على زر فتصبح صورنا وخصوصياتنا مشاعا.. كانت الألبومات هى كنزنا نحرص أن نضعها في خزانة الأثمن في حياتنا لأنها أكثر بقاء من عقد من الألماس أو خاتم من الزمرد..
•••
نعيد قرأة "الحب في زمان الكوليرا" وكل روائع ماركيز هل يا ترى سيكتب أحدهم رواية "الحب في زمن الكورونا".. نستمع لموسيقى كانت ملاصقة لنا على أشرطة كبيرة ما لبثت أن صغرت وقبلها أسطوانات عادة اليوم لتتحول إلى شيء من الابتكارات العبقرية. افتحوا تلك الخزانة ستجدوا تلك التي كنا نسمعها في مسائتنا ومطلوب أن نخلد للنوم لنصحى باكرا لمدارسنا وهو يجلس قرب الجرامافون يردد "يا سلام" وهي تقول "الف ليلة وليلة".. ونضحك ونحن واقفين على السلم بين الطابقين اللذين كانا عالمنا الصغير ونردد ما الذي يعجبه في ذلك ونحن أيضا لنا موسيقانا، بعضنا مغرم ب عبدالحليم "أنا لك على طول خليك لي" وآخرون يرددون البيلتز "شي لوفز يو يا يا يا".. كلنا على هوى الزمن الجميل.. الوقت يمضي ببطئ فيتسع لشبابيك أن تتفتح والمكتبات تزين جدران لو نطقت كانت رددت عبارات من روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتنهيدات المراهقات وهم القلوب من بعيد..
•••
هى مساحة للعودة إلى الحديث الدافئ مع كوب من الشاي بالحليب مع الزعفران والهيل وبعض قطع البسكويت، حيث تلتئم الأسرة والضيوف عند العصر.. يتناجى الأخوة ويضحكون حتى القهقهة لأن الوقت يسمح حتى بالضحك والبكاء وكل أشكال المشاركة.. الضحك الذي شح هو الآخر كما جمعة المساءات الرطبة وقبل موسم "الرطب" أي البلح بتلاوينه.. لم يعد كثيرون يهتمون أو يعرفون ذاك المذاق الخاص لمئات نوع ونوع من الرطب بألوانه الصفراء والحمراء وما بينهم وأسمائه .. ولا يحلى إلا ومعه قهوة لا تحلو إلا من يد أمهاتنا تصنعها بعناية فائقة ومقادير دقيقة فالقهوة ليست كما يتخيل البعض بعض من البن والماء بل هى كثير من المحبة والمهارة العالية..
•••
هى مساحة لإعادة الحياة لدواوين محمود درويش وبدر شاكر السياب وأمل دنقل.. وموسيقى وأغاني الشيخ إمام بشعر أحمد فؤاد نجم تأتي من الغرفة التي أوصدت بابها خلف تلك الشلة الثائرة الرافضة لكل القيم، بنات وصبيان في مقتبل العمر يبحثون عن حرية ما يتابعون ما يجري في باريس 1968 باعين متشوقة لما يشبه ذلك في أوطانهم.. هم أيضا كانوا يمتلكون الوقت والمساحة ليكونوا جزء من ذاك الوقت المختلف..
•••
ربما هى فرصة، ربما هى لحظة للوعي، ربما هي الإنذار الأخير لنا، كلنا ولا تستثني أحدا..
كاتبة بحرينية