قبل السجن وبعده - داليا شمس - بوابة الشروق
الإثنين 27 يناير 2025 12:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

قبل السجن وبعده

نشر فى : السبت 25 يناير 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 25 يناير 2025 - 7:30 م

بوجه حزين رزين مُلهم طلت علينا خالدة جرار من خلال مقاطع الفيديو التى انتشرت فور الإفراج عنها ضمن صفقة تبادل الأسرى التى عقدتها المقاومة الفلسطينية مع سلطة الاحتلال الإسرائيلى فى 19 يناير الحالى. جبارة بلا صراخ، جميلة بلا بهجة، نحيلة، متوسطة القامة، شعرها أبيض.. ترفع وجهها لتنظر إلى من احتشدوا لاستقبالها قبل أن تطوى درجات سلم بيتها لتصعد إلى الطابق الثانى، كما سمعنا زوجها يقول فى التسجيل. اعتقلتها السلطات الإسرائيلية عدة مرات، كان آخرها فى ديسمبر 2023، وتم احتجازها إداريًا، ما يعنى أنها لم تواجه اتهامات عامة أو تخضع لمحاكمة، ثم وضعت فى العزل الانفرادى داخل إحدى أقدم وأسوأ الزنازين وقطعوا عنها المياه، فكانت تجلس إلى جانب فتحة صغيرة معظم الوقت لتتنفس وتنتظر أن تمر الأيام والساعات.
التزام خالدة بحقها فى الصمت، ومكانتها كواحدة من أبرز المدافعين عن حقوق الأسرى الفلسطينيين الذين يصل عددهم حاليا إلى حوالى 11 ألفا، كانا دائما كفيلين بزيادة وطأة العقاب. لذا كان التجويع والحرمان من نصيبها، بل منعوها من وداع والدها وابنتها الصغرى حينما وافتهما المنية وهى فى السجن عامى 2017 و2021، فوصفت كيف عاشت الألم نفسه مرتين وبكت بحرقة وشعرت وكأن الدموع مسجونة معها. لكن عليها دومًا ألا تظهر انكسارها أمام السجينات اللائى يلجأن إليها لتمدهن بالقوة والطاقة الإيجابية ليصمدن.
رشحت نفسها للانتخابات التشريعية فى مارس 2021 من داخل السجن، وتم تعطيل الانتخابات بمبررات غير مقنعة. وكان قد سبق لها أن فازت بعضوية المجلس التشريعى فى انتخابات عام 2006، الأمر الذى منحها عضوية المجلسين المركزى والوطنى الفلسطينى. وتولت رئاسة لجنة الأسرى والشهداء والجرحى فى المجلس التشريعى، وساهمت فى حوارات المصالحة الوطنية ولجانها، فضلًا عن عضويتها فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية سابقًا وانتمائها إلى المكتب السياسى للجبهة الشعبية التى تدعو لتحرير فلسطين التاريخية بالكامل دون الالتزام باتفاق أوسلو.
• • •
لم نرَ اللحظات التى أوصدت فيها هذه المناضلة اليسارية النسوية باب بيتها استعدادا لاسترداد الحياة، فالإنسان يُسلب الحياة عند أسره وتُرد إليه بعد خروجه، وبالطبع عملية الانتقال والعودة ليست ببسيطة لها ولغيرها. مشاعر معقدة لخصها ببراعة وحساسية الشاعر السورى فرج بيراقدار فى كتابه «خيانات اللغة والصمت.. تغريبتى فى سجون المخابرات السورية»، الصادر عام 2006 عن دار الجديد، حين قال: «بعد إطلاق السراح يصير الأمس كابوسًا، وال هناك لعنة، وأنت، من حيث تدرى ولا تدرى، تحاول أن تمضى بهما حثيثًا إلى ما يشبه النسيان». وصفه أيضًا للزنزانة المنفردة التى تبدو كالقبر ينطبق على خالدة وعلى آخرين، يعود إليها السجين خائفًا من ضياع جسده، «هذا الذى يخرج من كل جولة تعذيب أشبه بشىء لا ضفاف له ولا جهات».
ساعات طويلة من الوحدة داخل الزنزانة يخلو فيها المرء إلى نفسه، يتأمل فيها مشواره ويواجه سيلًا من التداعيات. ذكرت خالدة جرار فى حوار نشرته مجلة «الدراسات الفلسطينية» عام 2022 حول تجربة السجن أنها كانت تحاول أحيانًا الكتابة على حائط الزنزانة كما يفعل المعتقلون حين ينقشون مقولات من نوع «لا تمت قبل أن تكون ندًا» أو «الفرج قريب» وشعارات التنظيمات مع رسم خريطة فلسطين، لكن حين كانت تنام على البلاط «تشعر حينها بأنك وحدك فى عالم غير آبه وغير مكترث». وهذا العالم تواجهه أيضًا عند خروجك إلى الواقع الذى ربما تبدل بعض الشىء وبدأ يفرض طروحات أخرى، فأحيانًا يخرج الأسرى من السجن ليجدوا أن الأفكار التى ناضلوا من أجلها ماتت فى حين ظل داخلهم مليئًا بالمثاليات.
• • •
خلال المرات السابقة التى تم فيها اعتقال خالدة جرار، وهى المثقفة الثورية التى تؤمن بضرورة التغيير وأن هذا التغيير لن يأتى من فوق، بل يجب أن يكون قاعديا، ساهمت فى وضع نظام يسمح بمواصلة الأسيرات تعليمهن المدرسى والجامعى.
عند اعتقالها عام 2015 لم يكن مسموحًا للأسيرات بتقديم امتحان الثانوية العامة، فعملت على تعديل هذا الوضع واستندت على وجود أسيرات يحملن درجة الماجستير وتمكنت معهن من فرض برنامج للدراسة الجامعية، وتركت خلفها سيدات وفتيات قادرات على استكمال هذا البرنامج.
داخل السجن التقت بعميدة أسيرات فلسطين، لينا الجربونى، التى أمضت أكثر من 15 عامًا فى سجون الاحتلال بتهمة الانتماء لحركة الجهاد الإسلامى، حتى تم الإفراج عنها سنة 2017. وتعاونت مع هذه الأخيرة التى أقدمت قبلها على تعليم الأسيرات اللغة العبرية والتطريز والخياطة وتفسير القرآن.
الرفيقة «أم يافا» كما يطلق الناس على «خالدة جرار» ازدادت خبرة ومعرفة بعوالم الأسيرات بعد تجارب السجن التى مرت بها. كتبت عنهن العديد من الورقات البحثية، كما نشرت مؤلّفًا عن الحركة النسوية الأسيرة، نالت عنه جائزة الحرية من هيئة شئون الأسرى والمحررين عام 2016. تتحدث دومًا باستفاضة وجرأة عن أوضاع المرأة الفلسطينية، رافضة أن تدفن رأسها فى التراب، فهى تعلم أن المرأة فى بلدها تعانى من ظلم المجتمع الذكورى والاحتلال معًا، وتعودت أن تربط الشأن الاجتماعى بالوطنى، خاصة فيما يتعلق بقضايا النساء.
تحلم خالدة جرار بفلسطين موحدة، ديمقراطية، علمانية، تسودها التعددية، فتاريخ النضال الفلسطينى لم يرتبط بفصيل واحد بل ضم قوميين ويساريين وعلمانيين وإسلاميين ومسيحيين. نساءً ورجالًا. المشاركة السياسية للمرأة بدأت منذ عام 1893، حين خرجت النساء فى مظاهرة احتجاجًا على إنشاء أول مستوطنة يهودية. ثم عُقد أول مؤتمر نسائى فى مدينة القدس عام 1929. وعند تشكيل منظمة التحرير عام 1964 تم تخصيص نسبة من مقاعد الهيئات المنتخبة للمرأة، ثم توالت الخطوات فى الاتجاه نفسه، إلا أنها مقتنعة أنه يبقى الكثير للوصول إلى مشاركة أكبر والمساهمة فى التغيير من أسفل.
على كل حال ذهب الأمس ولو مؤقتًا، ويبقى السجن سؤال الحرية. وفى ظنى لدى خالدة جرار التى ولدت فى التاسع من فبراير عام 1963 الكثير لكى تفعله على مستويات أعلى من القيادة والتحدى. نحتفل بعامها الثانى والستين وبخروجها من محبسها، ونحلم معها بإطلاق سراح كل الحسرات والأحلام.

التعليقات