نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا بتاريخ 21 إبريل للكاتب عصام القيسى يقارن فيها بين بلدين، لبنان والمملكة المتحدة، بشأن تعاملهما مع الذاكرة الجماعية، ففى حين تعمل بريطانيا على الاحتفاظ بها وتنادى بحقوق ضحايا أحداث وقعت فى الماضى، تسعى لبنان إلى محو الكثير من تاريخها من ذاكرة شعبها وتهمل الكثير من الحقوق... نعرض منه ما يلى. شهد هذا الشهر، خلال ثلاثة أيام متتالية، ثلاث مناسبات مختلفة سلطت الضوء على أهمية استذكار الأحداث، وتأثير ذلك على مسار البحث عن الحقيقة والحفاظ على الذاكرة الجماعية. ويرتدى هذا الأمر جانبا كبيرا من الأهمية لأن السبيل الوحيدة لتجنب تكرار الأحداث المأساوية هو إحياء ذكراها.
13 إبريل تاريخٌ اختاره اللبنانيون لإحياء ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية التى اندلعت فى العام 1975 وامتدت خمسة عشر عاما ــ أجمع الكثيرون على أن مجزرة بوسطة (حافلة) عين الرمانة، بيروت، حدثت يوم 13 إبريل شكلت الشرارة التى أشعلت الاشتباكات المسلحة التى سُرعان ما عمت مختلف أرجاء لبنان.
خلال فصول الحرب الأهلية، خاضت الميليشيات والجيوش اللبنانية والأجنبية معارك للسيطرة على المناطق، ما أسفر عن مقتل أو إصابة مئات الآلاف من الأشخاص، وتهجير مئات آلافٍ آخرين. وشكلت الحرب الأهلية أطول فترة عنف شهدها لبنان، ومع ذلك لم يتم إطلاق أى عملية مصالحة وطنية للمعنيين بها. بل عمد المسئولون اللبنانيون فى أغسطس 1991 إلى إصدار قانون عفو عام أدى إلى طى صفحة أحداث الحرب ومحو ذاكرة اللبنانيين.
عارض كثرٌ هذه الخطوة، من مثقفين وفنانين وناشطين، ونظموا حملات تهدف إلى الحفاظ على الذاكرة الجماعية. فانضموا على سبيل المثال إلى لجنة أهالى المخطوفين والمفقودين الذين نظموا منذ الثمانينيات حراكا تلو الآخر لمعرفة الحقيقة حول مصير أحبائهم المفقودين. وفى الكثير من الحالات، سعى الأهالى إلى دعم قانونٍ يسمح لهم بإعلان وفاة المفقودين الذين يخصونهم، نظرا إلى العراقيل القانونية التى يطرحها اعتبار أنهم لا يزالون على قيد الحياة. ومع ذلك، ما من نصب تذكارية شُيِدت لإحياء ذكرى الحرب، وما من مراكز أبحاث وطنية أو نقاشات عامة حول تلك المرحلة. كان لقمان سليم الذى اغتيل فى فبراير 2021 من الأشخاص القلائل الذين انهمكوا بلا كلل بتوثيق ذاكرة الحرب الأهلية.
14 إبريل الجارى هو اليوم الذى اختاره مجلس الوزراء اللبنانى، على الأرجح من دون أى وعى أو اكتراث للصدفة، ليُعلن موافقته على هدم أهراءات الحبوب المتضررة من جراء انفجار مرفأ بيروت الذى أسفر فى أغسطس 2020 عن مقتل ما لا يقل عن 218 شخصا ونزوح عشرات آلاف الأشخاص من منازلهم الواقعة فى الأحياء المجاورة للموقع. وحتى الآن، لا يزال لبنان عاجزا عن تبنى سردية موحدة ومقنعة لما حدث، ولا يبدو أن الدولة اللبنانية والجهاز القضائى سيكشفان عن ملابسات هذا الانفجار فى وقت قريب. وبعد مرور سنتَين على هذه الجريمة، لم يخضع أحد للمحاسبة عن مأساة تُعتبر أحد أكثر الأحداث إيلاما فى تاريخ لبنان.
يرى كثرٌ أن هذه الأهراءات تشكل أطلالا شاهدة على جريمة لم تُكشف حقيقتها فى بلدٍ تسود فيه حالة الإفلات من العقاب. لذلك، يُعتبر قرار هدمها بحجة أن أساساتها أصبحت ضعيفة ومعرضة للانهيار، مثيرا للجدل، إذ رفض نقيب المهندسين فى بيروت هذا الادعاء. ويعتبر أهالى ضحايا انفجار المرفأ والكثير من المواطنين اللبنانيين أن هذه الأهراءات تشكل وصمة عار على جبين المسئولين اللبنانيين ولا ينبغى تدميرها. ويتخوف اللبنانيون من أن يكون قرار الطبقة السياسية بهدمها مجرد محاولة إضافية لمحو الذاكرة الجماعية للبنانيين، كما فعلت فى السابق لعدد لا يُحصى من الجرائم على الصعيد الوطنى. إن أهالى الضحايا وداعميهم هم الجهة الوحيدة التى تناضل من أجل استمرار التحقيق فى جريمة المرفأ، والإبقاء على ذكرى الانفجار حية فى ضمائر الناس.
• • •
فى 15 إبريل، بعيدا عن سواحل بيروت، أحيى سكان مدينة مرفئية أخرى، وهى مدينة ليفربول، الذكرى السنوية لكارثة هيلزبرة. وعلى خلاف ما حدث فى لبنان، أثمرت جهود سكان ليفربول فى الحفاظ على الذاكرة الجماعية فى المدينة. وقعت كارثة هيلزبرة فى العام 1989 خلال مباراة كرة قدم بين نادى نوتينجهام فورست ونادى ليفربول ضمن الدور النصف النهائى من بطولة كأس الاتحاد الإنجليزى لكرة القدم فى ملعب هيلزبرة فى مدينة شيفيلد، حين تداعى مدرج مزدحم كان مخصصا لمشجعى ليفربول، ما أودى بحياة 97 شخصا وخلف 766 جريحا. وأسفرت هذه الحادثة عن أكبر عدد من الضحايا فى تاريخ الرياضة البريطانية. وقد أصرت الشرطة فى البداية على أن جماهير ليفربول هم سبب الحادثة، ليتضح لاحقا أن هذا الأمر غير صحيح.
جميع سكان ليفربول يعرفون شخصا أو أكثر طالته هذه المأساة، ولا يزال أهالى الضحايا يعتبرون أن العدالة لم تتحقق من جانب الدولة. فطوال ثلاثين عاما، بقيت أسر ضحايا هيلزبرة تناضل بلا كلل للوصول إلى الحقيقة والعدالة، لكن لم تتم محاسبة أحد لا عن الحادثة التى وقعت ولا عن المساعى الحثيثة التى بذلتها الشرطة ووسائل الإعلام لتحويل اللوم وتحميل الضحايا أنفسهم مسئولية الكارثة. إن عبارة Justice for the 97 ــ العدالة للضحايا الـ97) مألوفة جدا لمشجعى نادى ليفربول، وكل قمصان فريقه تحمل فى الخلف الرقم 97 تكريما للضحايا الذين سقطوا.
ثمة شعار يعبر خير تعبير عن روحية المناضلين من أجل العدالة لضحايا هيلزبرة، مكتوب على لافتة ضخمة رُفعت على مدرج الـKop الأشهر فى ملعب أنفيلد، وهو: We Climbed the Hill in Our Own Way ـ تسلقنا التلة على طريقتنا)، وهو مُقتبس من أغنية Fearless التى أصدرتها فرقة الروك الشهيرة بينك فلويد فى العام 1971، واستخدمت فيها مقطعا لجماهير ليفربول وهم يغنونها بصوت واحد على مدرج الـKop ويشرح الصحفى دان كاى من ليفربول أن كلمات هذا الشعار «هى تكريم للجهود الجبارة التى بذلها عدد لا يُحصى من الأشخاص وفعلوا المستحيل من أجل تغيير السجل العام لما جرى فى هيلزبرة وتصحيح أخطاء التحقيقات الأولية التى اعتبرت أن ما جرى كان حادثا عرضيا».
صحيحٌ أن العدالة لم تتحقق لضحايا كارثة هيلزبرة، غير أن ذكراهم ستبقى حية طالما يبقى المجتمع ونادى ليفربول حريصَين على تخليدها. وقد أدى هذا الرفض القاطع لمحو الذاكرة الجماعية إلى إعادة تصميم ملاعب كرة القدم البريطانية من أجل الحؤول دون تكرار مأساة كتلك التى شهدها ملعب هيلزبرة.
• • •
إن الأسباب الكامنة وراء المآسى فى كلٍ من لبنان وبريطانيا مختلفة للغاية، ومن الصعب جدا إحداث تغيير فعلى فى السياق اللبنانى. مع ذلك، سواء فى بيروت أو فى ليفربول، يبدو أن المبادرات المجتمعية الرامية إلى إحقاق الحق على الرغم من الظروف المعاكسة تبقى هى المسار الجدى والأوحد لصون الذاكرة الجماعية ومنع تكرار مآسى الماضى. لذا، لا بد لنا من دعم هذه المبادرات، على الرغم من التلال الوعرة التى علينا تسلقها لتحقيق ذلك.
النص الأصلى