كنت ذاهبا للكشف الطبى المنزلى على مريض فقير قعيد فى منزله وكان يسير إلى جوارى ابنه الشاب ليدلنى على الطريق فى الحى الشعبى المجاور لعيادتى وكنت أحمل أكياسا وشنطة ثقيلة، فقد كنت قادما من السفر.
سار الشاب إلى جوارى وهو يرانى أحملها بصعوبة وأنا فى هذه السن المتقدمة، لم يكلف نفسه أن «يعزم أو يقترح» أو يحاول مساعدتى، وهو يرانى أكاد أسقط من حملها.
اغتظت منه لأننى ذاهب لخدمة والده القعيد مجانا، فقلت له: أنت شاب وترى ما أحمل ولم تفكر لحظة حتى فى مجرد الاقتراح بمساعدتى، أو حمل بعض الأكياس معى.
انتفض سريعا لوقع كلماتى وأراد مساعدتى فرفضت بشدة قائلا: كان ذلك قبل أن أنبهك، أما الآن فلا، فلم أكلمك لمساعدتى فقد مضى أوان ذلك، ولكن لتعرف أن هناك قواعد أخلاقية فى الحياة ينبغى أن تهتم بها.
نموذج هذا الشاب شائع فى المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، أما القرى والمدن الصغيرة فلا يكاد شيخ كبير أو امرأة عجوز تحمل شيئا فوق طاقتها فى محطات القطار أو فى الشارع إلا ويسارع الجميع لمساعدتهم.
كانت أمى رحمها الله تصف لى مثل هذه المواقف الكثيرة التى مرت بها وتدعو كثيرا لمثل هذا الشباب الذى يقابلها ويحمل عنها دون أن يعرفها.
فى المقابل هناك طفل صغير لا يجاوز العاشرة من عمره يعيش مع أسرته فى العمارة التى أسكن فيها، مرض يوما بشدة فاستدعونى فوصفت له علاجات مركزة لسوء حالته الطبية. كان ذلك مجانا كعادتى مع جيرانى، تحسن بعد أسبوع هذا الغلام وكان يقابلنى بالأحضان والسلام الغالى.
كنت دوما أقول لنفسى: الذكاء الاجتماعى قد يكون أهم من الذكاء العلمى، كم من أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين يفتقدون الذكاء الاجتماعى وتفشل حياتهم الاجتماعية لذلك، ولا يحسنون التعامل مع المجتمع من حولهم ولا مع زوجاتهم.
ظل هذا الغلام على طبيعته الرائعة فى السلام ورد الحديث والتجاوب مع المشاعر الفياضة قبل مرضه وبعدها. منذ عدة أيام كنت أحمل عدة أكياس فيها خضار وفاكهة وغيرها وإذا بالغلام يصر على حملها قلت له: هذا فوق طاقتك وثقيل عليك، احمل واحدا فقط، قال: لا، وصمم على حملها، شكرته كثيرا، فإذا به يفاجئنى برد جميل: يا عمو أنت ربنا جعلك سببا فى شفائى، أنا كنت تعبان خالص، مشاعر هذا الغلام كانت كذلك قبل مرضه لم يصنعها علاجى له. هذا الغلام يأسرنى كلما التقيته هو رائع فى كل شىء ــ فى الاسانسير أو مدخل العمارة أو المسجد ــ بقوة حضوره الاجتماعى وعمق أخلاقه، الابتسامة لا تغيب عن وجهه الجميل، كلماته دائما أكبر من سنه، منطقه الاجتماعى أعمق من عشرات الأطباء والمهندسين وحملة الماجستير والدكتوراة من ذوى الفشل الاجتماعى الذين نعيش قصصهم كل يوم.
الذكاء الاجتماعى مصدره الجينات الرائعة والتربية الأخلاقية الفريدة، ولذا أنصح كل فتاة مقبلة على الزواج ألا تتزوج من الغبى اجتماعيا حتى لو كان غنيا أو صاحب جاه، الأسر الآن لا تعلم أبناءها الاجتماعيات الصحيحة. كنت محظوظا فى طفولتى، كانت أمى السيدة العظيمة رحمها الله، تعلمنى كيف أستقبل الضيوف وكيف أحمل الطعام للسائل والفقير، وأنتظره حتى يأكل وأعود بالأطباق، وكانوا قديما يدقون أبواب البيوت، وكيف أذهب لدفع الزكوات والصدقات من أسرتى المتوسطة لأقاربى الفقراء، وكيف أتلطف فى هذا الأمر، وأجلس معهم أولا وقتا وأشرب ما يقدمونه وأبلغهم سلام وتحيات والدى ووالدتى، ثم أخلو بالمقصود منهم وحدنا وأسلمه وأنا خجول الظرف بما فيه من مبلغ زهيد وقتها ولكنه كان يسعدهم.
كلمة «وليتلطف» التى جاءت فى منتصف القرآن بالضبط تعنى فيما تعنى أن الحياة كلها والدين كله يحتاج إلى «التلطف»، «والترفق»، «التأنى والتريث» والدخول إلى النفوس البشرية من أجمل المداخل، لكى يفهم ويعقل الناس الدين، ويقبلوه ويحبوه، وكذلك الحياة إن غاب عنها التلطف أصبحت ثقيلة كئيبة موحشة، التلطف فى كل الأمور مطلوب.
التلطف فى كل الأمور هو أكسير الحياة، التلطف مع الوالدين والزوجة والزوج والأولاد والأشقاء والأصدقاء، ومع الخصوم، التلطف فى حل المشكلات وفك المعضلات.
أكاد أجزم أن خلق «التلطف» لو ساد بيننا لحل معظم مشكلات الكرة الأرضية، ووجود كلمة «وليتلطف» فى منتصف القرآن بالضبط لم يأت من فراغ، التلطف هو حكمة الحياة لأنه يعنى حسن التأتى للأمور.