تصنع الأطراف منذ زمن الحدث، أو بمعنى أدق تصدر الحدث إلى المركز. الأطراف والمركز علاقة جغرافية لا أكثر. أعنى بالمركز العاصمة، والأطراف الأقاليم، والقرى. يفترض أن تكون هناك تنمية متوازنة، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا بين المركز والأطراف، ولكن هذا لم يحدث، حيث لا تستأثر العاصمة بالسياسة والاقتصاد والنشاط الثقافى، رغم محاولات تنمية الأطراف، ودفعها على طريق التنمية.
قرية «دمشاو» فى محافظة المنيا اشتهرت أخيرا بحادث توتر دينى وليس بإنجاز تنموى أو اقتصادى. وهى ليست استثناء، هناك العشرات من المراكز والقرى التى لم نكن نسمع عنها ذاع صيتها فجأة بسبب أحداث عنف دينى وقعت فيها. الأمثلة كثيرة مثل صنبو، والكشح، والفرن، وسلطان، وغيرها. يقع فيها حادث عنف طائفى عادة حول استخدام المسيحيين حقهم فى الصلاة، يأخذ شكل عنف يكبر أو يصغر حسب الحالة. ثم ما يلبث أن يتحول الحادث إلى خبر يتمتع بمساحة حضور فى مواقع التواصل الاجتماعى، والإعلام المحلى، وأحيانا الدولى. العنف الدينى مجرد مثال، وهناك الكثير من الأحداث التى تصنع محليا، وتتحول إلى عنصر ضاغط مركزيا. بالطبع لا أحد يختلف على ضرورة تطبيق القانون، وعدم اللجوء إلى الصيغ العرفية فى تسوية المشكلات، لكن المطلوب أن نفكر أبعد من ذلك، خارج الصندوق.
إذن الأطراف تصنع الحدث. المطلوب إذن وجود نظام محلى قادر على تسوية الخلافات والمشكلات، ومواجهة التحديات محليا، ولا يصدر الأزمات إلى المركز. يتحقق ذلك بتفعيل المشاركة، ووضع ميزانيات محلية ملائمة، ووجود كوادر قادرة على بناء بيئة اجتماعية متوازنة، وسلم اجتماعى، وتنمية ثقافية. نتحدث كثيرا أن الصعيد مصدر مشكلات، ولكن نحن جعلناه كذلك وقت أن تركناه دون تنمية، نهب لأفكار التطرف، وغياب المشاركة الجادة. الآن نجنى الحصاد المر لما حدث على مدى عقود.
المسألة فى رأيى ليست فقط تعصبا أو عنفا طائفيا أو تزمتا تجاه حق قطاع من المواطنين فى ممارسة شعائره الدينية، ولكن أيضا غياب البيئة المحلية القادرة على استيعاب المواطنين، وتمكينهم من حقوقهم، وإتاحة المجال أمامهم لتطوير قدراتهم، والتمتع بفرص اقتصادية حقيقية. إذا تحقق ذلك أتصور أننا لن نجد أمثلة لأحداث طائفية، أو على الأقل سوف تقل وتيرتها، حين ينشغل الناس بتطوير واقعهم بدلا من أن يكونوا أسرى داعية متطرف، وواقع اجتماعى خانق، وبيئة اقتصادية طاردة لهم، وفائض بشرى لا يجد فرصة مناسبة فى الحياة. والملفت أن الواقع الاجتماعى يتغير دون وجود بحث اجتماعى جيد يتابع هذا التغير، ويرصد اتجاهاته. هل تغيرت تركيبة القرية المصرية؟ نعم، نريد من يدرس توازنات القوة بها، التغير فى التركيبة الاجتماعية، والتحديات الاقتصادية بها، ويقترح حلولا ترمى إلى تغيير هذا الواقع باستخدام أدوات البحث الاجتماعى الحديثة: الحوكمة الجيدة، أساليب المشاركة المجتمعية الجديدة، اتجاهات التنمية الحديثة، خلق رأس مال اجتماعى، ومشروعات تحقق التضامن بين المواطنين على اختلاف معتقداتهم ومواقعهم الاجتماعية.
فى كل مرة يقع حادث توتر دينى، ونسمع عن قرية منسية من هذه القرى التى يعتصرها الفقر وغياب التنمية أرى ترديدا لنفس الكلام دون إبداع، وتستمر المشكلة، ويغيب الحل.