«أطلقوا الصيحات للحوار.. تعالوا معا يدا بيد لنتحاور» كنا نحن أول من قال ذلك قبل يومين؟ اسبوعين؟ شهرين؟ ام سنتين؟.. كنا اول من قال لا حل آخر سوى الحوار. حينها كان للحوار مساحة او فضاء ولكنهم رددوا اللعب على الكلام. أسهل ما فى الكون هو ان تلعب بالكلام ان تنادى الكلمة وتصف الحرف خلف الحرف ثم تعيد تكرار عبارات رصت بعناية شديدة ــ ولكنهم لم يدركوا ــ ان كثيرا من هذه الكلمات فقدت صلاحياتها منذ زمن.. نعم للكلام تواريخ صلاحية وللأحرف وقت تفقد بعده كثيرا من رونقها.. لبعض العبارات بريق يبهر البصر والبصيرة ولكنه مؤقت هو الآخر.. هذا لا يعنى ان صلاحية الحوار بطلت او رحلت، بل انه ربما يؤكد ان للحوار شروطا دونها لا معنى له سوى اضافة بعض المساحيق على نفس الوجه القبيح القديم!
أن تتجمل من أجل الجمال فلا مانع ولكن ان تتجمل من أجل التجميل وزقزقة البصر فهذا ما يجهض المعنى الذى بدأ.. هذا ما يضع النقطة بعد الحرف والكلمة التى يعاد تكرارها اليوم اكثر من اى وقت مضى.. «الحوار».
كلما ضاقت الأيام بكلامهم الممجوج احيانا والمطلى بمساحيق التجميل احيانا اخرى، كلما عادوا ليكرروا تلك العبارة «لنعود الى مائدة الحوار» او لندعوهم الى حوار، او نحن نفتح اذرعنا للحوار!.. كلهم يتقنون اليوم عبارات وضعتها بعض من تلك المنظمات.. كلهم يتصورون ان اتقان الكلام المنمق سينقذ المركب من الغرق! ذاك الذى كسرت حافته كلماتهم، ذاك الذى لا ينجو منه فرد دون الآخر.. ذاك الذى يتساوى فيه الجميع، فعندما يغرق تنغمس الاجساد فى المياه حتى تلفظ النفس الاخير! الاجساد كلها دون تمييز.
كان البعض قد فتح النوافذ بل شرعها على الهواء وقال تعالوا هنا مائدتى وبعض تمرى وملحى وكثير من صبرى واحلامى.. وردد تعالوا لتسمعوا قبل ان نعيد تكرار الكلام، فهل انتم بقادرين؟ كان الوقت قبل الظهيرة بشىء، كانت الصرخة فى اولها وكان الدم لا يزال يسكن القلوب الصغيرة الناطقة بالحب والحرية قبل ان يسقى الشوارع ويحول اسفلتها من الاسود الى الاحمر القانى.. قبل الدم نقطة وبعده الف نقطة ونقطة.. هكذا يكون الحوار وهكذا لا يتساوى الآن.
كانت الخيمة هى غطاء حوارهم صارت هى الآن شيئا من بقايا سطوتهم وتسلطهم وربما بعض تخلفهم.. لا يزال الحوار عندهم يسكن الخيام المتراصة فوق كثبان رمال صحرائهم الممتدة. عندما كان هو ان اتحدث انا وان تصغى انت وربما اذا استطعت ان تبحر فى التجلى الخاص بمديحى.. نعم مديح حوارى، عندها فقط يكون هو الحوار مع الحوار!
حدثوا انفسهم مع انفسهم، استبدلوا الخيمة بفنادق الخمسة نجوم اصطف الجموع ينتظرون الجابى ولكنه هنا يوزع المكرمات ولا يجمعها قبل الحوار وبعده!! ولكل حسب قدره ولكل حسب قدرته. بحر من الاجساد المتراصة تنتظر دورها فى طوابير الحوار.. بعضهم يسمع نفسه وآخر ينتشى لأنه فاصلة صغيرة فى جملة الحوار. للكلام فى موائد الحوار الخمس نجوم نظام خاص به، هم من وضعوه وهم من نالوا شرف ان تتحول عواصمهم الرملية الى مدن الحوار.. عواصم أحادية الصوت والصدى.. يعاد الصوت تكرارا فيأتى الصدى وبعضهم يتصور انه الصوت الآخر.. ان تتحاور مع نفسك فهو ليس الحوار يا سادة.. او ان تتحاور مع أكياس الدولارات المكدسة امامك بعضها يغريك والبعض الآخر ربما ليخيفك.. ألوان العملات كألوان الطيف تصطف لتعبد الطرقات الحوارية. ومعها بعض من تلك الكلمات المكررة وكثير من كلام الله المرسل من غيمة مرت فوق مدينتهم هم وحدهم.
هم يدركون ان للحوار موائده ولهم كلامهم منتهى الصلاحية ولكن لا ضير من المحاولة فلكل سعره ولكل حوار قيمته والخزائن ممتلئة حتى عينها.. وباب الذرائع مشرع لتبرير الموقف الآن او بالامس وللتدخل مرة ولتشويه الحوار الف مرة.. هم يدركون ايضا ان للحوار شروطه ولكنهم يعرفون ايضا ان ذاكرة الانسان قصيرة كعمره فلمَ لا يحاولون؟.. لا ضير من تكرار تلك الكلمة فهى تبهر الابصار وتشجى الأذان فى عواصم الكون الحاكمة بأمر الله او بأمر الملوك والرؤساء والعظماء والمبجلين.. كل يردد ترحيبه بالحوار ولا احد يريد الحوار حقا او ربما لا احد يدرك ان خيط الدم على صفيح الارض الساخن لا ينسى بالكلام.. هناك اذن كثير من الفعل وليس القول حتى تصبح مائدة الحوار مقبولة ربما.